ضعيني في بروازك، واغمريني باهتمامك، وقفي في صفي وخلفي، وكوني سندي حتى يشتدّ عودي أكثر فأكثر.. فأنا مرآتك. غُضي الطرف ما استطعتِ، وشاهديني بعيون الحب وحنان القلب، وقاتلي معي ولأجلي.. فأنا مرآتكِ. دعيني أقص كل حكاياتي الحزينة بجوارك، وأسكب
أخرج من الأعماق كل ضغينة، واستل سيف الحقد من غمد الضمير، وانتصر للشر، واضرب بكل قواك ما تبقى من دقات قلبك المريض. انثر على الكون الكراهية، ولوّن الفجر والزهر بالحزن والألوان القاتمة، وادفن بقاياك التي تحنّ إلى الإنسان. صافح الشوك في كل يد
أدارت دفة اليوم الجديد نحو الشمس، ورسمت على الرمال حلماً بدا مستحيلاً، ولم تلتفت خلفها ليمر أكثر من نصف قرن من الزمان على سطر البداية. اختارت طريقاً لم يألفها أحد قبلها، وأنارتها بنور نفوس أبنائها، ومهدتها بسلام صدورهم، وغرست على حوافها
يختبئ خلف الأحلام التي يرسمها غيرنا نيابة عنا في الصغر، ويهجرنا حين نُسلّم مستقبلنا لما يحبه الآخرون لا ما نحبه نحن، ويشفق علينا إن ضيعتنا الطريق. يعرف سر سعادتنا وإبداعنا وما يؤلمنا، ويقاتل معنا العادات والتقاليد التي تُقيّد أجنحتنا،
يأتي دورها بعد أن يغلق الصيف حقائبه مخبِّئاً فيها ذكريات البحر وألق الغروب وسحره السرمدي، وجمال الوقت وصوت الضحكات، ولمة الأهل والأحضان بعد طول غياب وسفر. تبتسم للأمهات وهن يخبئن حقائب الإجازة بعد أن يُحكمن إغلاقها وتغليفها وهن يحمدن الله
فارغة من الشغف، خالية من المتعة، مملوءة بالخوار والضعف، ثقيلة المرور وبطيئة العبور، ومحملة بالهموم وبقايا الذكريات والأحلام التي لم ترَ النور. ألوانها قاتمة وصباحاتها غائمة، يتساوى فيها الليل والنهار ولا تختلف فيها الأيام، أخبارها مكررة
تجادلني ذات العشرين ربيعاً كلما تعثرت قدماها على الطريق: ما نفع كل هؤلاء القوم، إن لم نكن متفاهمين؟ ما جدوى الاهتمام الذي نبذله لمن لا يبادلنا الود أو نجده في الأوقات العصيبة؟ ولمَ كل هذه المعاناة في محاولات إصلاح علاقة لا يريد صاحبها
يكبر فينا كلما تكسر شيءٌ عظيم في دواخلنا، يأتي متقداً بجمر القهر تارةً، والظلم والخذلان تارةً أخرى، يُشعرنا بغصة مريرة في الحلق، ويرفض كل نداءات الاستسلام لواقع الحال، حتى وإن كانت المعارك خاسرة. يحرمنا الراحة والنوم، ويملؤنا بالوساوس،
يوم جديد بصحة وعافية، بيت دافئ بلا مشكلات أو مشاحنات، قلب محب يخلص الود في الحضور والغياب، وشريك يحرص علينا ويحتوينا حد الاكتفاء، ضحكة صافية بلا هموم، وطعام لا تصاحبه أمراض وأوجاع، ونوم هادئ بعد عناء يوم شاق. عائلة تجمعها المناسبات
أذكر ملامحها جيداً قبل 20 عاماً، حين قدمت إليها للمرة الأولى، باب واسع مشَرع على الغد، وشوارع تشي بدفء الأماكن، ووجوه بشوشة تشعرك بأنك اليوم ضيف، وباكر من ناسها وسكانها. تمتد على أطرافها مساحات شاسعة، يغطي حوافها النخيل وثماره التي تُركت
كان يوماً مكتملاً بأفراحه وأتراحه، مبهجاً في بعضه وحزيناً في بعضه الآخر، ثم غدا أمس نسينا كل ما فيه من ضحكات، وتذكرنا فقط قسوته ووقته العصيب. نظلمه حين ننعته في المطلق بالأمس «السيئ» على الرغم من أنه لم يكن مظلماً بذلك القدر الذي نذكره به.
حكواتي قديم لا تنتهي قصصه ورواياته، يخلق من الكلمات أبطالاً ومواقف وذكريات لا تمحوها الأيام. يعرف كيف يرممنا بعد كل انكسار، ويخبرنا أن بوسعنا البدء مهما تكرر الفشل، ويحنو علينا كلما ضاقت بنا الطرقات. ينسج بيننا وبينه خيطاً من الود لا يقطعه
تسلبنا الطريق الكثير من الأحلام، وتضحك من براءتنا وخيالنا الذي يناطح السحاب وقت البدايات، وتدمي أقدامنا بأشواكها، وتضيق وتطبق حوافها على أنفاسنا على طول الرحلة، وتمتد مد البصر كلما استعجلنا الوصول. تنظر لما نتعلمه، وتنتظر ما نبذله من جهد،
ننتظرها كل عام كطفل متحمّس يرقب قدومها من خلف النافذة، ويمد يده للتأكد من زخاتها ثم يركض ليفتح ذراعيه ليغتسل بها. تأتي في مواسم قصيرة وأيام لا تطول وأوقات تنقضي سريعاً، بعد أن تترك بهاءها ونورها في النفوس والشوارع والبيوت. تستحمّ بها
بقلوب تود لو تقفز من الصدور وفوق الحواجز والعادات والتقاليد، واستعجال للغد الذي تأخر كثيراً في نظرنا، وعطش للحرية لا يرتوي أبداً. عود معوج يرفض التطويع، ويتصدى لمحاولات إقامته قوياً مستقيماً، وكلمة «لا» عنوان دائم في الرد على التوجيه. فكر
كعادتها في المواسم والأعياد، وفي كل يوم من رمضان، ومع اقتراب مدفع الإفطار، تُعد وجبة كاملة من أفضل ما صنعت في ذلك اليوم، وتغلفها جيداً، وتنتظر قدوم ذاك الصبي الذي كان وقتها دون الـ10، ليحملها له ولأبيه الذي يعاني إعاقة كبيرة في قدميه تمنعه
نشاهدها حين ننكمش على هامشها نرقبها من بعيد خوفاً من الفشل والألم والسقوط، فإذا بها تمر بالعمر والأحلام دون أن نعيشها ونختبر معها مواهبنا وقدراتنا على تحمُّل أوجاعها. نشاهدها حين نترك الوقت يمر بلا جهد حقيقي وعمل دؤوب يمنحنا الراحة بعد يوم
تحكي عن مصر منذ سبعينات القرن الماضي، تسرد تاريخاً من الحب، ومرات لا تعد من الزيارات المتواصلة على مدار سني عمرها الذي تخطى الـ80 عاماً. تحفظ شوارع «وسط البلد والمعادي والهرم والمدن الحديثة و6 أكتوبر والشيخ زايد والإسكندرية والغردقة
يأتي على أرضها مبكراً دون بقاع الدنيا، حاملاً بشارات الخير والرحمة، يعرف ربوعها وبيوتها وأهلها الذين ينتظرونه كل عام قبل موعده، بمد يد العون تيمناً به، واستعداداً لشهر العطاء. تنبسط أرضها بقدومه، وتتسع الأماكن والصدور، ويتسابق الجميع
«سأترك البيت»، لا شيء يهم، لا استقرار ولا هدوء ولا أطفال ولا عشرة ولا عهد ولا ود ولا قدرة على التحمل والاستمرار. «سأترك البيت»، سأتخلى عن الصبر وأهدر سنوات العمر التي أمضيتها في تأسيسه وإعلاء بنائه، وأشرع الأبواب لرياح الخوف وأزيل سقف
كتَبت على كل منافذها وبواباتها وأبوابها «مرحباً بكم»، وفتحت ذراعين بحجم الكون للإنسان، وباتت نهضتها نموذجاً يحتذى. لمن لا يعرف قدرها: بلد فتي، وأرض خيرة، وشعب يمتاز بسلامٍ نفسيٍّ يكفي القارات، ومواقف ثابتة، وثروات ضخمة لم تستأثر بها،
تقول إحداهن «قالت لي أمي، حين حكيت لها قصة حبي التي انتهت بفراقٍ أليم، إن الحياة بها الكثير من الأحزان والقليل من الفرح، وإن عليّ أن أعلّم قلبي كيف يكون شجاعاً وقوياً في مواجهة الألم، وقتها سكبت الدمع السخين، وشعرت بأن الطريق سيكون قاسياً»
كنت أبادرها بالتحية كلما قابلتها تتريّض في الحديقة المقابلة لمنزلي، فتبادرني بابتسامة ندية ووجه صبوح وعافية واضحة، تجابه تقدم العمر بالمشي السريع كل يوم في المكان ذاته، فيما أنقطع أنا أياماً وأعود أخرى. يبهرني إصرارها وإقبالها على الحياة،
هنا، حيث تشرق وجوه الناس مع شروق الشمس، فتبتسم لنعمة اليوم الجديد، وتمتن لقدومه في أمان وستر. هنا، حيث المزاج قهوة عربية وتمر وشطيرة خبز عُجنت بحب الأمهات ودعواتهن، هنا، حيث الصباحات سرور وخير. هنا، حيث الشوارع النظيفة والحدائق البهيجة
كتبت فوق أولى قصاصات العام الجديد «مرحباً»، ورسمت على حوافها وروداً تشبه تلك التي منحتني إياها يوماً ما مع قلبك واسمك. تأملت ساعاته الأولى والعالم يجدّد إنسانيته ووحدته ولو لدقائق معدودة وتعجبت، كم هي قصيرة لحظات الفرح التي نتشارك فيها نحن
كنت كل يوم قبل الغروب، أحمل مقعدي الصغير وأقف عليه، كي أستطيع رؤية الشمس قبل الغروب، لأحدثها متخيلاً أنها أنت. كنت أخبرها أني أحبك وأفتقدك، وأني وإخوتي وأمي سنعود مرة أخرى إليك. كنت أحدث الشمس، كما اعتدت أن أتحدث إليك، كانت ملاذي من وحشة
تفقد بصرها في ريعان شبابها، فتعطي لها الدنيا ظهرها، وتفضح قبح النفوس وقسوة القلوب وشماتة غير الأسوياء. تُحكم الأقدار قبضتها على حاضرها ومستقبلها، فتعيش دهراً كاملاً في ظلام القهر والجهل السائد وقتها، بأن زيارة الطبيب آخر مراحل العلاج. تمضي
أقف كثيراً أمام فكرة أن الحياة دوماً تنتصر للغد وتقف في صف المستقبل ولا تنتظر من ينظر خلفه، وتبهرني مقولة «من لا يتطور يندثر»، وأعلم يقيناً أن التغيير سنة كونية والتطور حالة حتمية في كون الله الفسيح. أتساءل كلما مررت بشارع الشيخ زايد في
ليست مجرد أحداث تأخذ وقتها وتمضي، ليست قاصرة على أصحاب الشأن والتخصص والمهتمين فقط، ليست أخباراً وصوراً وعناوين يتناولها الإعلام بكل أشكاله، أو براويز تتصدر أعمدة الشوارع وعلى واجهات المباني المضيئة. ليست فقط حقيبة ذكريات يحملها كل ضيف
صباحك أمل وعمل وأحداث وفعاليات وإنجاز لا يعترف بالمستحيل. صباحك أمان يعمّ البشر والطير والشجر، ولا يُفرّق بين جنس أو لون أو دين، ويساوي بين الجميع. صباحك عطاء يمتد للإنسان في كل بقاع الأرض، يبحث عن المعوزين والمنكوبين بلا منّ أو تفضّل أو
توجس من الغد وخوف على الأحلام التي قد تصطدم بقسوة الواقع وشروطه، وروح تتأرجح بين أمل ينير النفس التواقة للتميز والاختلاف والإبداع، ويأس لغياب التجارب والخبرات. يطرقون الأبواب ولا يعرفون ما خلفها، وينتظرون يداً تمتد بالعون ونصيحة مخلصة تهدئ
يخالف الميل والهوى والرغبة في الراحة والاسترخاء، ويوخز ضمائرنا مع كل تقصير أو تكاسل. يُطاردنا مع دقات ساعة الاستيقاظ مبكراً، ويقذف بنا تحت أمطار الشتاء، ووسط لهيب الصيف، لا يُراعي ما يعتري نفوسنا من ضجرٍ أو ملل. يردد على مسامعنا كل وقت ما
تعودنا أن أقوى ما يجمع الناس، أوقات الوجع، فكيف نقنعهم؟ تعلمنا أن يد الله مع الجماعة والاتحاد قوة واليد الواحدة لا تصفق، فكيف نقنعهم؟ أخبرونا أننا أخوة دين ودم ولغة وتاريخ ومصير وعادات وتقاليد، فكيف نقنع أولئك الذين يشعلون الفتن بين الشعوب
قصتها.. طوق نجاة فوق الأمواج العاتية، وشعاع نور وسط ظلام دامس، وأمل ينبت في قلب أتعبته الحياة وأعيته. برهان على لطف القدير ومعيته التي تخلق طمأنينة لا يعرف سلامها وعظمتها إلا من اختبرها، فبددت وحشته وآنست وحدته. عهد سماوي يفتح باباً كلما
وسط الحروب وفي قلب ظلامها وظُلمها، وتحت أنقاض البيوت والمساجد المهدّمة على رؤوس أصحابها، وفوق الجباه التي ترفض الانحناء لغير الله، وتأبى بيع أرضها وأحلامها، هناك نور ينتظركِ يا غزة. رغم صرخات أطفالك ورغم انكسار النسوة اللواتي يغادرن بيوتهن
مساحة بحجم الكون براحاً وراحة مهما حدتها الحدود وامتداد بمدد البصر وأحلام سقفها السماء، هكذا الأوطان. مراتع طفولة ونوم عميق بلا هموم أو قلق وسلام نفس ودفء من برد الشتاء، هكذا الأوطان. شمس وهواء نقي وزرقة بحر وخلطة سحرية من الذكريات تأبى أن
قصة قصيرة مثيرة وبليغة، ورسالة سلام وعمل دؤوب، وأمل في غد أفضل للجميع. تعايش واحترام للاختلاف، وتقبل للأجناس والأعراق بلا تكبر أو تعالٍ، وبراح وسع الجميع، رغم آلاف البشر الذين اجتمعوا بألوانهم وتطلعاتهم في واحد من أكبر وأعرق معارض النفط
أنا تلك التي قطعت وعوداً على طول الطريق ولم تزل تتحجج، تلك التي عزمت على شدّ الرحال إليك مرات ومرات، ولم تصدق الوعد ولم ترتحل. أنا تلك التي تُضيّع من العمر الكثير على قصر أيامه ولم تزل تتأمل.. تلك التي تلهث خلف أشياء حتماً سيأتي موعد
هؤلاء الذين تشعّ وجهوهم أملاً وتفاؤلاً وبشراً، الذين يعرفون أن قدرهم مواصلة السير مهما تعثرت أقدامهم، أنا معهم. هؤلاء الذين تتجدد أيامهم وأحلامهم بالسعي والصبر، الذين يصرون على ترك أثر في الحياة قبل العبور، أنا معهم. هؤلاء الذين لا يهابون
ينتشلنا من قسوة الواقع حين يفرض قوانينه الأزلية بلا رفق أو تمهل، نختلي به لنطبب الجراح التي لا يعالجها الوقت أو النسيان، ونتكئ عليه إن ضاقت بنا السبل، وأعيتنا الحيل. نلوّنه كيفما نشاء، ونعيش فيه مع من نريد، وإن باعدت بيننا وبينهم المسافات،
تتفتح ورودهم بين ليلة وضحاها، يشتد عودهم سريعاً بينما نحن نلهث خلف تفاصيل الأيام المتشابهة والواجبات التي لا تنتهي، تتشكل أفكارهم من عالم يفتح نوافذه على كل الأشياء وضدها في اللحظة والآن، ونظن أنهم باتوا قادرين على أشواك الطريق. يخفون خلف
نحبه قدر غموضه الذي نخفي فيه غموض مشاعرنا وأيامنا وخوفنا من المجهول، قدر اتساعه الذي يسع الأحلام البريئة التي تطال بخيالها حد السماء، قدر سعادة الأطفال والكبار وهم يعودون إليه بعد طول انتظار وعناء. نحبه، قدر ضيق صدورنا الذي يبسطه نسيم
تخصنا دون غيرنا، ولا تسمح بمن ينوب عنا، تشهد اشتداد العود وتضحك من سذاجة أحلامنا وبساطتها وتبكي معنا وقت تأبينها، وتعرف يقيناً أنها لحظات صعبة لميلاد حلم جديد أكثر واقعية ونضجاً. تتقاذفنا بين جدرانها القدرية وتؤلمنا بأشواكها حتى نفيق من
حين نمد لهم يد العون بحب وودّ، فيبادروننا بالأذى والحقد، لابد من مساحة ومسافة أمان نحتفظ فيها باحترامنا لذواتنا، وخصوصياتنا وسلام نفوسنا. حين نأتمنهم فيخونون بلا رادع ولا ضمير، ونعاتبهم فيتمادون، حين لا نجدهم وقت الشدة والحاجة، لابد من
أولئك الذين فتحوا صفحة جديدة مع الحياة، بعد أن مزقوا كتاباً بأوراق صفراء ترقد على صفحاته أشلاء قلوبٍ مكسورةٍ، وكثير من الوعود والأحاديث والصور. أولئك الذين توقفوا عن الإخلاص للوهم والعيش على حافة الماضي، ومطاردة خيال لن يأتي أبد الدهر.
حين نغطي نواقصنا بتعرية الآخرين ونكء جراحهم والحط من قدرهم والخوض في أعراضهم وعيوبهم، ليس شرفاً. حين نبتسم في الوجه ونتصنع الود ثم نطعن في الظهر بلا ضمير ولا وازع، ليس شرفاً. حين نُضمر الشر ونستكثر على غيرنا الخير وندس أعيينا وأنوفنا في
ذراعان بحجم الكون، وعمر منثور يسبق الخطى، وسنوات تنقضي في رعايتنا، وحب بلا شروط، ودعوات تعرف طريقها دوماً للسماء. عينان ترقب العود الغض حتى يشتد، وخوف ينزع شوك الطريق، وحدب يزيح الهم، وأمان يعمّ البيت كل مساء. قلب ينفطر وقت الوجع، ويد تمتد
تنظر في مرآتها وتتساءل لماذا أنا ذاهبة؟ هو لقاء صديقتها المعتاد مع خطيبها كل أسبوع على ضفاف النيل، ومن غير المنطقي أن تقبل دعوتها ثم تذهب لتلتقي هناك حب عمرها وشريك حياتها.. وتبدأ قصة. يشتعل الصراع في العمل ويشي به مديره المباشر حتى تتم
بعضنا مخلص لأشيائه العتيقة حتى النخاع.. المعطف القديم المعلق منذ سنوات في آخر الخزانة، وحقيبة اليد التي تحولت مع الوقت مخبأً للأوراق المهمة، قنينة العطر الفارغة، والصور التي طمس الزمان ألوانها فأضحت باهتة لكن مازال بريقها في الذكريات.
أولئك الذين يرهنون كل صباح أعمارهم، ويراهنون على صحتهم وراحة أبدانهم لأجل غيرهم، الذين يعرفون قيمة أنفسهم ودورهم الأزلي في الحياة قوامة وعطاءً وحماية. أولئك الذين يتحملون بلا كلل، ويقدسون العمل، ويسعون بلا توقف أو ملل، ولا يرون لسيرهم
لم يكن أبداً أوراقاً صماء، بل عمر وميلاد جديد ومصباح نور وسط العتمة والانكسار، ولم تكن سطوراً وكلمات بل طوق نجاة من الأحزان ويد امتدت نحو غريق بائس يصارع أنفاسه الأخيرة لأجل البقاء، وفارس شق غبار انهيار الأحلام وداوى الجراح الغائرة، وملأ
أتينا لا نحمل سوى الأحلام وقلب يرجف خائفاً من المجهول، وحقائب قصص مخبأة وصور وحكايات لا يمكن قصها أو البوح بها. أتينا ومعنا حصاد الذكريات وسنوات من عمر مضى، وصوت يطمئن قلقنا بأن قدومنا مؤقت وبقاءنا محسوب ولابد من يوم تعود فيه الطيور
لا بأس من نهار يبدأ بالغيوم، ولا ضير أبداً إن تراكمت على القلب الهموم، فهذي هي الحياة وتقلباتها، لم تدم على حال ولم تدم لأحد. لا بأس إن ضاقت النفس يوماً، أو رغبت في الرحيل إلى المجهول، لا يهم حينها من نكون، ولا كيف نفكر، ولا مع من نعيش،
نخفي فيه المشاعر، ونهذّب به الرغبات، ونغض به الطرف خشية أن توشي بنا النظرات، تغرسه الأمهات في نفوس الأبناء، ويقرنَّه بحسن التربية وجميل الصفات، وتتوارى خلفه ضحكات الصبايا، ويدفنَّ فيه خفقان الحب الأول، ودقات القلب، وتورد الوجنات. تتزين به
نقدمه، فيغمر قلوبنا وأرواحنا طُهراً وسمواً وترفعاً، قبل أن يصل إلى غيرنا. نتشارك به الخير والفضل شكراً للنعم، وطمعاً في رضا المولى جل وعلا، وتقرباً أن يديم عطاياه وستره علينا. ينزع من صدورنا الأثرة وحب الظهور والاستعراض البغيض، ويُعلمنا أن
لا تبالي إن ضاقت بكِ الحياة يوماً، فكم يمر على نهر الحياة هموم، ولا تخافي من تبدل حال، فلطالما تعاقب بعد الليل النهار. لا تبالي إن لم يعجبهم كلامك أو ملابسك أو لون شعرك أو طلاء أظافرك، ولا تسمحي لأحد بأن يفكر نيابة عنك أو يهز ثقتك بنفسك.
كم من سنوات جئتنا، طارقاً قلوبنا، تنشر خيرك في الطرقات، وتُعمر المساجد والبيوت بالصلوات وتنشر السكينة في نفوسنا. كم بك من أوقات روحانية ورحمة ربانية ودعاء متشبث بحسن الظن واليقين بإنجاز الوعد «ادعوني أستجب لكم». كم بهجةٍ وفرحٍ وزينةٍ، تلك
أهذا كان قلبكِ أم قلبي الذي وهبته الحياة، وفرحتِ بدقاته، وتحسست حركاته؟ أهذا كان جسدك أم جسدي الذي حملته داخل روحك وحفظت ملامحه وكتبتِ ميلادك يوم ميلاده؟ أهذه كانت يديك أم أرجوحتي ومهربي وأماني؟ أهذه كانت ابتسامتك أم مصدر ثقتي ودليل صوابي؟
هي، من توقظ الحياة كل فجر حولها، وتلوّن الصبح بألوانها، وتنفس في أنفاسه عطرها، فينتعش الكون طرباً وتبسماً وتفاؤلاً بها. هي، من تغسل هموم الأمس بنور الشمس كل يوم، وتُخبئ أحزانها خلف الأمل، وتغزل الحلم تلو الحلم على طول الطريق. هي تلك، التي
نأنس لحديثهم ونطمئن رفقتهم ونرتاح جوارهم ونضحك معهم من القلب. يشبهوننا، يحبون الألوان ذاتها ونكهات الطعام بعينها ويرون الجمال والنور في كل شيء، رغم صخب الحياة وعتمتها. نفوسهم نقية وسريرتهم بيضاء، تسبق الابتسامة خطواتهم لتُعرف بهم من حولهم،
نخوضها على طول الرحلة، صراعاً تلو الآخر، وقلقاً يسلمنا إلى قلق، وأحلام لا ينتهي بريقها وإجهادها، وتطلعات لا تعترف بسقف أو حدّ. يدفعنا إليها طواعية، حب امتلاك كل شيء دفعة واحدة، والإصرار على صورة مكتملة لا تحتمل نقصاناً، والتنافس والتسابق
من لم يمتن لوجوده في الحياة، ويعرف قدرها وقيمتها ومرادها، وكم هي قصيرة رحلتها.. من لم يمد يد العون لمن حوله، ويكفّ أذاه عن غيره، من لم يرَ الله في الجمال والسلام والعدل، لم يقع في الحب. من لم يترفع عن الصغائر، ويشد على الأيادي المرتجفة،
كانوا تحت الأغطية وحول مدافئ الشتاء ينتظرون الغد ليبتسموا لأطفالهم كعادتهم كل صباح كانوا يأملون أن تتحقق كل الأحلام المؤجلة وتنفرج المشكلات المستعصية ويتبدل عسر الأحوال لليسير. كانوا يفكرون بالسنوات الممتدة والأيام البهيجة والنجاح الذي
تعزف على أوتار القلوب فتأنس وحشتها ويهدأ ضجيجها، تحفر نقوشاً من الذكريات تقفز مع كل استماع لها، فتعيد الماضي بكل تفاصيله الجميلة والموجعة. لا نعرف سرها ولا كيف تفعل بنا ما تفعله، بهجة وسعادة ووجداً، توقظ أحلى ما فينا: إحساس مرهف ومشاعر
تلك المخبأة في حشايا القلب، وبين صفحات الروايات القديمة، ودفاتر اليوميات الخاصة، وعلى أحرف القصاصات الوردية، وفوق وسادة المساء وأمنيات ما قبل النوم، وفي الآمال التي لم تختبر بعد الإخفاق والخيبات. تلك المخبأة في زجاجات العطر، وبين ثنايا
تمنحنا الحياة فيه حق الاختيار، لكنها لا تقبل منه شيئاً في المنتصف، نأخذه كاملاً أو نتركه كاملاً، ولا تعترف برمادية ألوانه، إما أبيض ناصع واضح وإما أسود معتم. ندفع مقابله ثمناً باهظاً مكلفاً من أعمارنا وصحتنا، وتدمي أقدامنا أشواك الطريق قبل
ما بين عام وعام ينساب العمر سريعاً وتتعاقب الأيام فلا تأبه لمتخاذل ولا تتنظر كسلاناً.. ما بين عام وعام نفتح كل صباح ستائر الأيام لنستقبل نور الكون وصخب الحياة، ثم ما نلبث أن نُسدلها مع مغيب الشمس فلا ندري كيف رحل الوقت وانقضت الساعات. عام
نحن النساء نحب من ينصت لنا، يسمع كامل قصتنا، ويفهم وجعنا، ويحترم غضبنا، وفي نهاية كل يوم يخبرنا أنه بصدق يقف في صفنا، يقوي ضعفنا، ويحزن لحزننا. نحن النساء، نحب من يهتم لحالنا، ويحفظ تفاصيلنا، ويسعد لسعادتنا، ومستعد دوماً ليخسر نقاشه معنا،
تحلم به صغيرة، وتتمناه أميراً، تنتظر قدومه كل يوم، وتبحث عنه وسط العيون، ترسم صوره في أحلامها البسيطة فارساً محباً عاشقاً، ثم شاباً وسيماً تحسدها عليه الأخريات، ثم رجلاً مقتدراً قادراً على تحقيق الأمنيات، ثم نموذجاً مكتملاً لا نقص فيه
يرتبط في وجداننا بصورهم ولون ملابسهم وتعابير وجوههم وإحساسنا المدفون بهم وسط العروق. يتجدد به الشجن والحنين لمن فارقونا، ويعيد تأكيد ارتباطنا بمن معنا وجوارنا، وتعلق رائحته في أرواحنا طيباً تطيب به الصحبة والأوقات. يحضر قبل صاحبه فتنفتح به
تبدأ كل يوم قصة جديدة وحكاية ممتعة، تسطر فيها تاريخاً وحضارةً بمفهوم مختلف، فجرها سلام، وصباحاتها خير، ونهارها سعي دؤوب، وليلها سرور وبهجة لا تنتهي. تجدها حيث الأمل لا يعرف مستحيلاً، والرزق يقبل القسمة على الجميع، حيث الشوارع والبيوت براح
حين يقف خلفنا، يقوي ضعفنا، ويقبلنا بعيوبنا، ويحدب علينا كأم حانية أو أب عطوف. حين يختار في كل وقت صفنا، فنكون الاستثناء دون العالم، والأولوية على كثرة الانشغال والهاتف الذي لا يحتمل تأخير الرد، والتواريخ المحفورة في القلب قبل الذاكرة. حين
لا ندري في أيهما نحبك أكثر، ليلك الذي لا يغمض جفنه أم نهارك الذي يضج حياة؟ وكيف هي بدايات يومك هل هي من شرفاتك المفتوحة على الأمل والمستقبل في أحلك الأوقات، أم من أبواب أهراماتك التي توقف التاريخ وتصنعه وتجدد شبابه؟ وإلى متى ينساب نيلك في
هنا على ضفاف الخليج صنعوا من الحلم مجداً واقعاً وحياة.. هنا تفتح المدن المزهوة بالإنجاز ذراعيها بودٍّ خالص ويد ممدودة بالسلام، وترحاب بطعم التمر، ومذاق القهوة المعتقة بالحب. هنا أهل فزعة وبيوت كرم، وشوارع تحتضن زوّارها بالأمان والبهجة. هنا
«التفاخر لكسر القلوب، يتجاهل أن وراء كل نعمة سبباً وحكمة ربانية» ساحة حرب نفسية، واستدعاء للحسد وضيق الصدر، يخلق مسافات بين الأهل والأصدقاء والجيران، وباب واسع للمقارنات والنظر لما في يد الغير. يعمي البصر والبصيرة عما بين أيدينا من نعم،
نبحث عنهم وقت الضعف والانكسارات، فهم لا يعرفون استسلاماً لهزيمة أو انحناءة للريح، نُعري ضعفنا أمامهم بلا خجل، ثقة منا بنبل أخلاقهم واستيعابهم، نلقي على بابهم المشرع دوماً على الأمل المخاوف والهواجس، بحثاً عن الهدوء والطمأنينة بأن كل شيء
يستهلك من العمر والصحة الكثير، ويملأ الصدر ضيقاً وحرجاً، ويورثنا المرض إن رافقنا في كل موقف ودرب.. يغير ملامحنا كمداً، ونصرع به هدوء عقولنا وثبات أفكارنا، ويهز ثقتنا بأنفسنا وقناعاتنا الخاصة.. نخسر بسببه الصاحب والقريب والجار، ونُجهد به
يأتي الليل ليسدل أستاره بعد سعي النهار وصخبه، ناعماً هادئاً مؤنساً ساكناً، يعرف الجميع أنه وقت لراحة النفوس والأبدان، فلا ضجيج ولا فوضى ولا صوت مرتفع. يتجوّل في الشوارع وعلى جنبات الطريق وبين أزقة المساكن كل يوم ليجد في الإمارات أماناً
تأبى النفس السوية فكرة التعايش معه أو حتى الصمت عنه، وتحاربنا في قبوله فطرة الحياة التي فطر الله الخلق عليها حتى ولو كان ما يحدث بعيداً عنا. تُفزعنا ألوانه وخفي مقصده وتسلله المقيت لبراءة أطفالنا وشبابنا عبر فضاء لم يعد بوسع أحد كبح تمدده
بشوشة الوجه، سمحة الملامح، في بساطة حديثها اعتداد بأصلها وماضيها الطيب وثقة في حاضرها الذي ترعاه عين الله ويحرسه رجال مخلصون. جاءت تحمل «حلوى عمانية» صنعتها بيديها، وترحاب يسبق خطواتها، اعتادت عليه بفطرة سوية وبصحبتها زوجة ابنها وحفيدتها.
هل من بابك المفتوح للقريب والغريب أبدأ، أم من بابي أنا المفتوح ليلاً ونهاراً، أمناً واطمئناناً، أبتدئ الحديث؟ وماذا أكتب والحروف على براحها لا تسع براحك الذي وسع الإنسان من كل جنس ولون بلا فوارق ولا تمييز؟ وكيف لذاك العهد القديم المتجدد
تبدو أمامنا في بداية العمر ممتدةً نحو مجهول ٍغامض، مظلمةً وقت الضجر، خاويةً من حولنا في الليالي الموحشة. تُسقطنا عثراتها وكبواتها مراتٍ ومرات، وتؤلمنا أشواكها كعادتها، فما كانت أبداً ممهّدةً لأحد، فلكلٍّ منا حظ من أوجاعها. نمر بها عابرين
يكبر فينا صغاراً، ويلازمنا أعواماً ونحن كبار، يحتل عقولنا وتفكيرنا إن لم نتعلم كيف نروضه ونطوعه رفيقاً وقريناً لرحلة لا نعلم متى تنتهي. يسلبنا الاستمتاع بالحاضر وما به من نعم وخير، ويقفز في مخيلتنا كطفل عنيد لا يهدأ إلا إذا غلبه النوم،
كم هي قاسية ومؤلمة، تلك التي يحملها غدرٌ أو خذلان أو خيانة، تصدمنا حين تأتي وسط شعورنا بالأمان والاكتفاء، حين نظن أننا أصحاب الحظ الأوفر في الحياة، وأننا راضون وسعداء، تحفر وجعها في العروق وشماً، وتترك في القلب ندباً، وتأبى الرحيل وتستعصي
تدهشنا فكرتها، ونستبعد أن تكون واقعاً ناجحاً، فنحاول تأخيرها بكل ما أوتينا من سبل، نخبرهم أن سواعدهم مازالت غضة، ومعارك الحياة طاحنة. ترفض قلوبنا المتلهفة إطلاق أجنحتهم للريح العاتية، أملاً في إبقائهم بجوارنا حتى اللحظة الأخيرة، وتخشى