نحبه بهذا القدر

أمل المنشاوي

نحبه قدر غموضه الذي نخفي فيه غموض مشاعرنا وأيامنا وخوفنا من المجهول، قدر اتساعه الذي يسع الأحلام البريئة التي تطال بخيالها حد السماء، قدر سعادة الأطفال والكبار وهم يعودون إليه بعد طول انتظار وعناء.

نحبه، قدر ضيق صدورنا الذي يبسطه نسيم الغروب فوق صفحاته الهادئة وهي تودع هجير النهار وتستعد لاستقبال المساء، قدر الحنين لمن غادرونا وتركوا عطرهم وصورهم في ذات المكان.

نحبه، قدر هدوئه الذي يسكب في الروح سكينة لا نعرف سرها، قدر هياجه الذي يعلمنا الثورة على الضعف والاستسلام والفشل، قدر صموده الأزلي وبقائه ما بقي الزمان.

نحبه، قدر حبنا لإحساس الأيادي المتشابكة تماسكاً والقلوب المخلصة التي تبقى عنواناً للوفاء ودليلاً على انتصار الخير والحب والصدق في وجه الأنانية والتخلي والخذلان.

نحبه، قدر احتياجنا لهدنة بعيداً عن فوضى العالم وقسوته وحماقاته التي لا تنتهي، قدر رغبتنا في النسيان والبدء من جديد مهما تكررت الانكسارات والخيبات.

نحبه، قدر الأريحية والبساطة التي نشعرها حين نحكي أوجاعنا لصديق قديم يعرف كيف يرسم الضحكات على وجوهنا ونحن غارقون في الدموع.

نحبه، قدر انتمائنا واعتدادنا بجذورنا، ولهفتنا الدائمة للأوقات الدافئة بصحبتهم على شواطئه، قدر متعة الصيف وملابسه البيضاء وحلواه المثلجة، المغلفة بطعم الفرح.

نحبه، قدر وجع الأغنيات وعذابها وعذب الموسيقى الذي يعيدنا سنوات للوراء حين كان الحلم قادراً على تخطي الفوارق والعقبات واللوم، حين كنا أبرياء حد السذاجة بنقاء صدورنا وحسن الظن بقادم الأيام.

نحبه، قدر الإيمان الذي تغرسه الجدات والأمهات، فيظل باقياً رغم جنوح الشباب وإحباط الأوقات الصعبة، ليظهر جلياً وسط ظلماته وتقلباته وآياته، التي لا يملك زمامها وسرها إلا القدير جل في علاه.

نحبه، قدر ملوحة مائه وصفائه وشفائه، قدر خيراته وهباته وأرزاقه التي تعرف جيداً أسماء الصيادين وتحفظ ملامحهم السمراء وحبات العرق المتلألئة على جباههم، تحت أشعة الشمس وأمطار الشتاء.

نحبه، قدر جمال رماله وأمواجه وحنوها وهي تطيب خواطرنا وتخلصنا من التوتر والقلق وتلمسنا بسحرها فتعدل مزاجنا وتغسل همومنا بلا تمييز بين أغنياء وفقراء.

نحبه، عنواناً للكبرياء والعطاء والسخاء، وفيضاً من نعم المولى وجنداً من جنوده عز وجل ودليلاً على محكم تنزيله وعظيم كتابه.

إنه البحر، الذي نحبه في كل الفصول وبكل أحواله، ونعرفه صاحباً ومكاناً للاستجمام وكاتماً للأسرار وقادراً على البوح والنصح بلا كلمات دون انتظار ثناء أو إطراء.

كلنا نحبه بذاك القدر وأكثر، وننتظر بشوق تلك اللحظات الغالية بجواره مع من نحب من الأهل والأصدقاء، نحبه في الصباح والمساء، في الصيف والشتاء وفي كل الأوقات.

amalalmenshawi@

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

تويتر