أجهدتنا يا رجل

أمل المنشاوي

تفقد بصرها في ريعان شبابها، فتعطي لها الدنيا ظهرها، وتفضح قبح النفوس وقسوة القلوب وشماتة غير الأسوياء.

تُحكم الأقدار قبضتها على حاضرها ومستقبلها، فتعيش دهراً كاملاً في ظلام القهر والجهل السائد وقتها، بأن زيارة الطبيب آخر مراحل العلاج.

تمضي 63 عاماً تتحسس طريقها وتحفظ جدران بيتها بقلبها وبصيرتها التي تخترق صدور من حولها، فتعرف من يحبها بصدق، ومن يراها عبئاً لا يريد تحمله.

ترسم ابتسامة رضا على وجهها مع كل سؤال عن الأحوال، وتردد بيقين من يعرف أن «الحمد لله» تسد باب الأحزان، وتطرد الوساوس والخوف من القادم بكل ظلمه وظلامه.

تعرف من حولها بقلبها، فتشد على يد المخلصين والمحبين، وتمطرهم بدعاء لا ينقطع مهما امتدت زيارتهم لها، ويتعالى صوتها بأن الوقت مازال مبكراً، ومازالت ضيافتها لم تكتمل.

تصاب في سنواتها الأخيرة بالمرض العضال، فتترك له جسدها النحيل ينخر فيه بلا رحمة، فيما التسبيح والحمد والاستغفار شغلها الشاغل، وكأنها تستعد بكل ما تبقى لها من قوة لساعة الرحيل.

قصة حزينة انتهت هذا الأسبوع برحيل صاحبتها، عنوانها الصبر، لكن أجمل فصولها على الإطلاق ذاك الابن البار على طول الرحلة، الذي تعهدها في بيته لأكثر من 50 عاماً في صحبتها، يتفقد صحتها ومأكلها ولبسها ونظافتها، ويقدم كل ما يتعلق بحياتها على حياته وحياة أسرته في واحدة من أعظم حكايات البر التي يُضرب بها المثل.

كنت كلما زرتها أتأمل تجاعيد الزمن على وجهها، وحكاياته المحفورة فوق جبينها، والتي تقابلها بالرضا والاحتساب والدعاء لابنها البار الذي يغدق عليها حباً ورعاية، ويحدب عليها كطفلة صغيرة ليجنبها الآلام والأوجاع، وكنت أتأمله وهو يخدمها بحب، ويسخّر لها كل ما يملك، ويغرس حبها ورعايتها في قلب زوجته وبناته، لتصبح أمه في كل وقت ملكة البيت ذات الأولوية في كل شيء، وصاحبة الصوت الذي ينشر البركة في أرجاء المكان، والنداء الذي لا يحتمل تأخر الرد في كل وقت.

أكثر من 50 عاماً يا رجل أجهدتنا خلفك وجميعنا يحاول اللحاق بك في برّ أهله، فلا ينجح حتى في الاقتراب منك.

أجهدتنا يا رجل، 50 عاماً وأنت تحت أقدامها، لم تمل فيها، ولم تشتكِ، ولم تتذمر من رعايتك لها أو تحاول الاستعانة بمن يساعدك.

أجهدتنا يا رجل، وأنت تعلمنا كيف أننا من نحتاج بر آبائنا وأمهاتنا أكثر من حاجتهم لنا، كلما رأينا ذاك النور الذي يشعّ من وجهك والرضا فوق ملامحك.

@amalalmenshawi

قراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه

تويتر