كنتُ أحدث الشمس

أمل المنشاوي

كنت كل يوم قبل الغروب، أحمل مقعدي الصغير وأقف عليه، كي أستطيع رؤية الشمس قبل الغروب، لأحدثها متخيلاً أنها أنت.

كنت أخبرها أني أحبك وأفتقدك، وأني وإخوتي وأمي سنعود مرة أخرى إليك.

كنت أحدث الشمس، كما اعتدت أن أتحدث إليك، كانت ملاذي من وحشة الأيام وقسوتها، وسري الكبير الذي أحتفظ به لنفسي، وحيلتي القليلة والوحيدة للوصول - ولو وهماً - إليك.

كنت أحدث الشمس وأنا أتشبث بالشرفة المرتفعة بكلتا يديّ، مقاوماً قصر قامتي، وبُعد المسافة بيني وبينك، وأرسم على قرصها ملامح وجهك، وأتذكر حديقة الألعاب وأكياس الحلوى وسعادتي حين كنت بصحبتك.

كنت أحدث الشمس كل غروب، وأسألها كأني أسألك، لأجل من تركتنا؟ وأي شيء يا أبي كان حقاً يستحق كل ما عانيته أنا وإخوتي؟

كنت أحدث الشمس كأنها أنت، وأحكي لها قصصي البريئة والخوف الذي يرعبني في ليالي الشتاء الطويلة، وكيف أن عقلي الصغير لا يفهم أو يصدق تلك الحكايات التي تُقال عنك.

كنت أحدث الشمس، لأشعر بالأمان والدفء حتى كسر أحد إخوتي بلا قصد مقعدي الصغير، ولم يعد بوسعي الوقوف مجدداً ورؤيتها وقت مغيبها؛ فكان ذلك أعظم انكساراتي وقتها، فكنت أبكي سراً كل يوم لمصابي الجلل، وأنا أفكر بعقل طفلٍ لم يتجاوز أربعة أعوام، فقد سلامه وسلمه.

ثم بعد سنوات، عدنا إليك، لكن ظلت أحاديثي مع الشمس حاضرة في مخيلتي كل يوم، تقفز من ذكرياتي كلما حان وقت الغروب، فأتذكر كم كانت قاسية تلك الأيام، وكيف أني لم أعد أبداً كما كنت قبل افتراقي عنك.

قصة حزينة يرويها صبي الـ16 ربيعاً حين سألت أمه سؤالاً عفوياً له ولإخوته عن أكبر شيء يتذكره كل واحد منهم، ويسعده أو يؤلمه من ذكريات طفولته.

وجع بطعم المر، تلك الحياة التي يتركها الآباء خلف ظهورهم بمن فيها من أبناء وزوجة وواجبات والتزامات نفسية ومادية لأطفال أبرياء ليس ذنبهم أن والدهم وجد واهماً سعادة جديدة أو يرغب في تجديد شبابه، والعيش كما يحلو له.

لكل أب دور عظيم في حياة أبنائه، وعليه أن يفكر 1000 مرة فيهم قبل أن يفكر في نفسه، كي يشبوا أسوياء متزنين، خصوصاً إذا كان ابتعاده عنهم ليس أمراً قهرياً أو لاستحالة الاستمرار للحفاظ على تماسك البيت.

نعتقد أن الصغار بوسعهم النسيان سريعاً، وتجاوز الأوقات الصعبة حتى يصدمنا الواقع بأن ما نقوم به - نحن الآباء والأمهات - محفور في ذاكرتهم ومنقوش على جدران قلوبهم الحزينة لمرور أسعد أيامهم بعيداً عمّن يحبون.

amalalmenshawi@

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

تويتر