«فيكتوريا وألبرت» يستعرض مسيرة فنية طويلة بالعاصمة العُمانية

400 عام من تاريخ الأوبرا في ضيافة دار الفنون الموسيقية

صورة

الفنون وليدة المجتمع وجزء لا يتجزأ من كيانه؛ وعلى مر العصور كانت وسيلة للتعبير عن عصرها ورصد شكل الحياة فيه، حتى الفنون التي يمكن وصفها بالنخبوية، مثل الأوبرا والبالية، فعلى عكس ما يعتقده كثيرون، يخبئ تاريخ الأوبرا صفحات تكشف عن مراحل متعددة ضمن مسيرة طويلة مر بها هذا الفن ليصبح على ما هو عليه الآن، كما تكشف عن تغييرات مهمة مر بها فن الأوبرا، وقام بها فنانون عظام خلّدهم التاريخ في ما بعد، وقد لا يتصور كثيرون أن هؤلاء الفنانين كانوا محل هجوم ورفض من المجتمع أحياناً، ومن النقاد في أحيان أخرى.. تلك المعلومات وغيرها يمكن الاطلاع عليها خلال جولة في معرض «فكتوريا وألبرت: 400 عام من الإثراء الأوبرالي»، الذي افتتح أول من أمس في دار الفنون الموسيقية في العاصمة العمانية مسقط؛ ليكون أول فعالية تُنَظم بعد افتتاح الدار، وهي المرة الأولى التي يخرج فيها المعرض الشهير من العاصمة البريطانية لندن.

تشكل الجولة في المعرض، الذي يستمر حتى 14 مارس المقبل، رحلة تستحوذ منذ الوهلة الأولى على حواس المتلقي الذي سيتمكن من الاستماع عبر سماعات الأذن إلى مقطوعات لعروض من إنتاج الأوبرا عبر تاريخها الطويل، وشرح عبر اللوحات، والمجسّمات الرخامية، والأزياء، والمقاطع الصوتية، والقطع الفنية النادرة التي تُعرض للمرة الأولى في السلطنة، للمراحل التي مر بها فن الأوبرا، وهي رحلة تمر عبر مدن (البندقية، لندن، فيينا، ميلانو، باريس، ومسقط).

البداية

من البندقية يبدأ المعرض، لا ليسرد بداية ظهور الأوبرا فقط، ولكن ليلقي الضوء على نمط الحياة فيها في القرن الـ17، تحديداً في عام 1642، إذ كتب كلاوديو مونتيفيردي أول أوبرا عامة بعنوان «تتويج بوبيا»، وتضمنت توزيعات الفرق الموسيقية في القرن الـ17 باستخدام آلات مثل الهاربسيكورد والعود الأوروبي، وأحياناً آلات نفخ وآلة الثيوربو التي تشبه إلى حد كبير العود العربي، وهو أكبر دليل على تبادل الثقافات بين الشرق والغرب على مر التاريخ.

المحطة الثانية في المعرض هي مدينة لندن في القرن الـ18، عندما جاء الشاب جورج فريدريك هاندل ليبدأ مشواره الفني فيها بتقديم «رينالدو»، وهي أول أوبرا غنائية باللغة الإيطالية في المدينة التي ظهرت كمركز تجاري عالمي، واعتمدت الأوبرا على مؤثرات بصرية ساحرة، مثل نيران ومياه وطيور حقيقية أبهرت الجماهير التي رحبت بها بشدة، لكن في المقابل أثار العرض ردود فعل نقدية قوية من صحافة لندن التي تخوفت من هذا النوع الفني الأجنبي، وما قد يثيره من مشكلات مع مسرح شكسبير التقليدي الذي كان يكافح ليصمد في ذلك الوقت، واتخذ هذا الرفض أشكالاً مختلفة، منها رسم هوجارث الحشود الواقفة أمام الأوبرا بطريقة كاريكاتيرية، بينما جمع أسماء شكسبير وغيره من المؤلفين الانجليز في تلك المرحلة في عربة خشبية يتم دفعها بعيداً.

ورغم هذا النقد؛ نجح الثنائي هاندل ومدير مسرح آرون هيل في تحويل الأوبرا إلى وسيلة الترفيه الرائجة في ذلك العصر. كما أنتج المدير المسرحي جون ريك العمل الساخر «أوبرا الشحاذ» من تأليف جون جاي، ليسخر فيه من الأوبرا الإيطالية وموضوعاتها الأسطورية، ويقدم عوضاً عنها شخصيات وموسيقى رائجة يتفاعل معها الجمهور، وتم التعبير عن نجاح هذا العمل واستمراره للعرض لمدة 62 عرضاً متتالياً، برسم يظهر فيه الممثلون وهم يجمعون النقود التي تمطرها السماء، والمثير للسخرية أن أرباح هذه الأوبرا التي سخرت من الفن الإيطالي استخدمت في تمويل بناء أول دار أوبرا في لندن، وكان موسمها الافتتاحي في 1734، وشغل هاندال منصب المدير الموسيقي فيها.

محطات بارزة

تمثل فيينا محطة بارزة في تاريخ الأوبرا؛ إذ كانت مدينة التنوير ومنصة انطلاق وازدهار الأفكار الجديدة في القرن الـ18، وفيها ظهر فولفغانغ أماديوس موتسارت ليقدم الأوبرا الشهيرة «زواج فيغارو» التي تبدو كوميدية، لكنها تحمل ضمنياً نقداً اجتماعياً لاقى قبولاً واسعاً لدى جمهور العاصمة النمساوية، فهي تعد أول أوبرا تقدم شخصيات من مختلف طبقات المجتمع، كما جسّدت أساليب تفكير تنويرية مع منح الخدم دوراً محورياً في الدراما، وظهروا كأشخاص طموحين مساوين للأرستقراطيين وقادرين على حل مشكلاتهم. وعانى موتسارت صعوبات مادية وكافح ليستمر ويحظى بالقبول، وتحقق له النجاح في النهاية بفضل موهبته.

ويركّز القسم الخاص بميلانو في المعرض، على منتصف القرن الـ19، حيث كانت إيطاليا واقعة تحت الحكم النمساوي وتعاني قلاقل واضرابات، إذ بدأ المؤلف الموسيقي الشاب فيردي مشواره الفني وسط أجواء إيطاليا الممزقة، وكلف بكتابة أوبرا مأخوذة من قصة «نابوكو» التي تتناول موضوعات قوية عن الهوية والوطنية والحرب، وحققت «نابوكو» نجاحاً غير مسبوق ورسخت اسم فيردي على الساحة الدولية، وأصبحت أغنية «حلّقي أيتها الأفكار» النشيد الوطني الإيطالي غير الرسمي. وكانت إيطاليا تضم حينها 150 دار أوبرا، وأصبح هذا اللون الفني الصوت الجماعي للجمهورية الجديدة. ويعكس الجزء الخاص بباريس في المعرض الصراع الذي شهدته المدينة في ستينات القرن الـ19 بين التقاليد والحداثة، وصراع الفنانين الحداثيين للتحرر من الذوق الحداثي، وفي تلك الفترة طرأت على الأوبرا تغييرات تعكس ما طرأ على المجتمع، مثل ظهور البالية على خشبة مسرح الأوبرا وخلف الكواليس. وفي ذلك الوقت قدم ريتشارد فاغنر العرض الأول لأوبرا «تانهويزر» التي خالفت قواعد الأوبرا الفخمة، التي تستند عادة الى أحداث تاريخية عظيمة، وحاولت خلق لغة موسيقية جديدة، فقاطع رواد الأوبرا التقليديون إنتاجه، بينما رحب به الفنانون والمفكرون أمثال بودلير. وتعبيراً عن هذا الجدل حمل غلاف جريدة ليكليبس رسماً كاريكاتيرياً لفاغنر وهو يقف على أذن شخص ويحفر ليثقبها.

في السلطنة

تتوقف المحطة الأخيرة من المعرض في مسقط، لتعبّر عن اهتمام سلطنة عمان بالتطور الثقافي بوصفه ركيزة أساسية من ركائز تقدم البلاد، إذ تم إرساء معايير عالمية لتنمية الفنون، بما في ذلك الحفاظ على التقاليد الموسيقية والفنية للسلطنة، وفي أكتوبر 2011، افتتح السلطان قابوس بن سعيد، دار الأوبرا السلطانية - مسقط إيذاناً ببدء مرحلة جديدة في مسيرة التطور الثقافي في بلاده. وخلال ذلك أعلن المايسترو بلاسيدو دومينغو، قائد أوركسترا العرض الافتتاحي، أن دار الأوبرا السلطانية - مسقط «جوهرة ثقافية» حقيقية. وبهذه المناسبة قدمت مؤسسة «أرينا دي فيرونا» أوبرا «توراندوت» لجياكومو بوتشيني من إخراج فرانكو زفيريللي. ويضم المعرض نماذج من التصاميم والأزياء والصور الفوتوغرافية للعرض، ولهذا المعلم الفني المهم دوره في التعاون الدولي.

مداما بترفلاي

شهدت دار الأوبرا السلطانية - مسقط، مساء أول من أمس، عرض أوبرا «مداما بترفلاي» عن موسيقى جاكومو بوتشيني والنصر الأوبرالي لجوزيبي جاكوزا ولويجي إيليكا، وسط حضور جماهيري كبير من مختلف الجنسيات.

عراقة

بداية معرض «فكتوريا وألبرت: 400 عام من الإثراء الأوبرالي» كانت في شهر سبتمبر 2017 بمتحف «فكتوريا وألبرت» في لندن، الذي يُعد أكبر متحف مختص بالفنون والتصميم والأداء في العالم. ويعود تأسيسه إلى عام 1852، وسُمّي بهذا الاسم نسبة إلى الملكة فكتوريا وزوجها ألبرت.


14

مارس المقبل، موعد اختتام المعرض.

تويتر