جديد صوفيا كوبولا

«مكان ما».. ضياع عـــلى هدير «الفيراري»

«مكان ما» نال جائزة «أسد البندقية الذهبـي» في الـدورة الأخـيرة مـــــــــــــــــــــــــــــــــــــن المهرجان. آوت ناو

في مكان ما سيحملنا الفيلم إليه، لن نسأله عن الجهة والمسافة والخطوات، سيكون الأمر بمثابة ضياع علينا الوصول إليه في النهاية، برفقة نجم سترهقه الأضواء، وتحديداً في مساحة زمنية يلتقط فيها أنفاسه، بين فيلم وآخر، وهو يتحرك وتتحرك معه الحياة المحتشدة بكل شيء، محتشدة لدرجة أنها ستبدو في لحظة منفلتة من مواجهة الكاميرا خالية من كل شيء.

بمقاربة ملتبسة بعض الشيء أمضي مع فيلم صوفيا كوبولا الأخير Somewhere «مكان ما» الذي لم يعرض بعد في دور العرض المحلية، وقد نال جائزة «أسد البندقية الذهبي» في الدورة الأخيرة من هذا المهرجان، هذه البداية ستكون ربما للوصول إلى «مكان ما» لا على التعيين، كما هي حال فيلم «كوبولا»، الذي سيقول لنا من اللقطة الافتتاحية الطويلة بأننا في صدد ضياع خاص، ونحن نرى سيارة فيراري سوداء تمضي أمام الكاميرا الثابتة في دوران في مساحة مجدبة وخالية، ولننتقل بعد ذلك إلى جوني ماركو (ستيفن دورف) وهو بنزل الدرج برفقة ثلة من الحسناوات فإذا به يقع وتنكسر يده.

فيلم «مكان ما» سيكون ومن البداية في مسعى لأن يكون مشابهاً للحياة، دون درامية مضافة، فالدراما هنا متأتية من حياة رجل بمفرده، تصادف أنه نجم سينمائي، يعيش في فندق، يتنقل بين امرأة وأخرى بخفة الريشة، وبالكاد يتذكر أسماؤهن، محاصر بأجمل النساء، مرغوب بقوة، محط إعجاب، وهو لا يفعل أي شيء بهذا الخصوص، لا بل يعاني أرقاً مزمناً، أحياناً يستعين براقصتي تعري ليتمكن من النوم، يقدمان له عرضاً فيغفو، واحياناً يكون العرض مثيراً فيتحمس فيعدل عن النوم، وأحياناً وفي أشد اللحظات حميمية يهبط عليه النوم بلا استئذان.

الانعطافة الوحيد التي تحدث في حياة جوني ستأتي من جهة ابنته، والتي ستمضي معه بضعة أيام، سيضطر خلاله إجراء بعض التعديلات الطفيفة على حياته، دون الجذرية منها، سيقنن قليلاً من تنقله من امرأة أخرى، سيستيقظ ويجد ابنته كليو (ايلي فانينع) التي لم تتجاوز 11من عمرها قد أعدت فطوراً، سيقاسمها تلك اللحظات المسروقة منها، سواء منه أو من أمها التي لا نراها، وصولاً إلى جعله ترافقه في سفرته إلى ايطاليا، حيث يمسي الفيلم قريباً جداً من فيلم صوفيا كوبولا «ضائع في الترجمة»، لكن بدل بيل موراي وضياعه في طوكيو واللغة اليابانية، فإن ستيفن دورف سيكون ضائعاً في روما واللغة الإيطالية.

ستمنح العلاقة بين جوني الأب وابنته مساحة كبيرة في الفيلم، سيتداخل ربما في هذا الجزء ما له أن يكون «بيوغرافياً»، وعلى شيء يجعل من هذا التوصيف مشروعاً طالما أن صوفيا هي ابنة فرانسيس كوبولا، لا بل إن الأجواء التي يقدمها الفيلم ستكون صوفيا كوبولا على دراية تامة بها، وفي مستوى آخر، فإنه تقدم لشخصية لها أن تضيء حياة نجم سينمائي من الداخل، دون أن تكون معنية بالمضي خلف حيثيات الصناعة السينمائية في هوليوود، كوننا لن نرى جوني أبداً أمام الكاميرا، ولك ما له علاقة بأفلامه لن يتعدى رحلته الترويجية لفيلمه في ايطاليا، وما يصنع له خبراء التجميل من قناع وتحويله إلى رجل عجوز، إضافة لبعض السيناريوهات التي تسأله ابنته أن يقرأها فيسأله هو أن تقرأها بدل عنه وتختار له ما يناسبه.

«مكان ما» فيلم متمركز حول لوس أنجلوس، الكاميرا لا تتحرك كثيرا، اللقطات ثابتة وطويلة في مسعى من كوبولا أن تقدم ما له أن يكون فيلماً مجاوراً للحياة قدر المستطاع، وبوصف آخر فيلماً طبيعياً، مع انعدام البهارات التشويقية، التي لا تتعدى شعور جوني بأن هناك سيارة تلاحقه، وهو يتلقى رسائل نصية تسخر منه وغروره، توحي بأنها تأتيه من امرأة غيورة، لكن كلا هذين الحدثين لا يفضيان إلى شيء، ويتركان دون أن يكون لهما أثر يذكر في مسار ما نشاهد.

الرهان إذن على الشخصية، والتي لا تتكلم كثيرا، تستعيض عن ذلك بالتدخين والشرود، كما أن الذرى الدرامية غير موجودة أبداً، كل شيء يمضي في خط ثابت إلى أن يصل جوني انهيارا بسيطاً، « أنا لا شيء» كما سيقول، انهيار مؤقت يمكننا القول، ما من مآسي ولا أحداث مؤلمة، لكن من قال إن الانهيار بحاجة في حياتنا إلى مأساة، قد يأتي من الملل ربما، من الأضواء الساطعة المسلطة على النجوم دائماً، من الإيقاع المنهك في حياة رغيدة سرعان ما يكتشف صاحبها بأنها خالية تماماً من المشاعر، الأمر الذي يزداد وطأة عليه حين تفارقه ابنته.

في فيلم «صوفيا كوبولا» مقترح جميل، ستيفن دورف قدم في تجسيده شخصية جوني دوراً متناغماً تماماً أداء وجوهراً بما تود كوبولا تمريره، وكل ما نشاهده لا يعوزه أي من عناصر الجذب، ولعل النجاح في تحقيق ذلك مع دورف يعني عبورها ثلاثة أرباع المسافة إلى نجاح الفيلم ككل، لكن هناك ما يستوقفني بخصوص فوز الفيلم بأسد البندقية، وقد كان كونتين تارنتينو من يترأس لجنة التحكيم في الدروة الـ67 من هذا المهرجان، خصوصاً بعد مشاهدة معظم الأفلام المشاركة في تلك الدورة، ولتكون الخلاصة، فيلم «مكان ما»جيد وجداً، لكن أكثر من فيلم كان أفضل منه من جهة ما يضيفه إلى الفن السابع، لكن يبق تارنتينو في انحيازه إلى فيلم صوفيا كوبولا، انحيازاً شخصيا لحب حياته السابق.


«المقاتل».. الملاكم والعائلة والمخدرات

يمكن لعبارة مثل «الملاكم والعائلة» أن تشكل معبراً إلى فيلم The Fighter (المقاتل)، والوصول إلى ما له أن يكون وصولاً إلى ما حمله هذا الفيلم في رهان سردي على الشخصيات ومن ثم العوالم التي تتحرك فيها.

ثمة مقاربة للفيلم تدفعنا للتصريح بأن آخر ما نطمح إلى مشاهدته هو فيلم جديد عن الملاكمة والملاكمين، لكن ذلك سيتبدد من اللقطة الأولى في الفيلم، وتحديداً لدى وقوعنا على ديكي (كريستيان بيل) وهو يجابه كاميرا فيلم آخر يصور عنه، فيلم وثائقي عن حياته. هذه الشخصية جاهزة لأن توقع المشاهدين في شباكها ومن اللحظة الأولى، إنه ملاكم صاخب أصبح مدمن مخدرات ونراه ينتقل في شوارع البلدة يبادل الجميع التحيات، وفي الوقت نفسه يرافقـه أخيه ميكي (مارك ويلبيرغ) الملاكم أيضاً والذي لم يفارق مثل ديكي الحلبات، وصولاً إلى أمهما أليس (مليشا ليو) التي تكون مديرة أعمال ميكي، إضافة إلى الأب المغلوب على أمره وسبع أخوات إناث شقراوات جميعاً.

الصخب الذي يتحرك في نطاقه الفيلم في جزئه الأول سيكون مدهشاً، عشرات الأشخاص سيمرون بينما نتعرف إلى ديكي وميكي، وإدراكنا أن ميكي لا يستطيع اللعب ما لم يدربه ديكي، الحقيقة التي سرعان ما تتغير مع الهزيمة التي تقع لميكي من جراء سوء الإدارة العائلية لموهبته، وقبولهم أن يلعب مع من يفوقه وزنا بـ40 باوندا، وبالتأكيد خسارته بعد تلقيه ضرباً مبرحاً، هذا عدا السبب المتأتي من علاقة الحب التي تنشأ بين ميكي وشارلين (إيمي آدامز المرشحة لأوسكار أفضل ممثلة في دور ثان عن دورها هذا)، شارلين التي يسميها أخوات ميكي بفتاة «إم تي في»، والتي ستأخذ ميكي نحو الاستقلال عن عائلته وتتبع مسيرته المهنية بما يتناسب وطموحه وموهبته، خصوصاً بعد ما يتسبب به أخيه ديكي من مشكلات، وهو يقول لأخيه إنه سيوفر له المال الذي سيحصل عليه من جراء تدربه مع آخرين غيره، ولتكون وسيلته في تحصيل المال هو السرقة، وليلقى القبض على ديكي ويقبع في السجن. في ما تقدم ملخص سريع لأحداث الفيلم الرئيسة، ولنكون في النهاية أمام دراما منسوجة وفق تمايز الشخصيات، وسلاسة السرد، وفي بنية لها أن تكون متأثرة بآليات الأخوين كوين، إضافة لتقاطعات لطيفة بين شخصية ديكي وشخصية الملاكم التي جسدها براد بيت في فيلم «سناتش» بما يفوق كونهما من أصول إيرلندية. رغم احتواء الفيلم على الكثير من منازلات الملاكمة، فإنه يمضي وفق خط له أن يكون منسوج بجماليات خارجة عن حلبة الملاكمة ووفق نسيج العلاقات الانسانية، خصوصية العائلة وطرافتها، شخصية ديكي الرئيسة بحيث يكون ميكي الذي علينا أن ننتقل معه من انتصار إلى آخر ثانوياً مقارنة مع ديكي الذي كلما جاءت أمه لتأخذه من البيت الذي يتعاطى فيه المخدرات هرب من النافذة وقفز إلى داخل حاوية القمامة، أمه التي تقرع الباب ثم تمضي إلى الحاوية لتنتظره عندها وهو يقفز في داخلها.

تويتر