المرصد

«مصدر طلب حجب اسمه»

عاير الرئيس الأميركي دونالد ترامب في تغريدة له، أخيراً، صحافة بلاده بأنها تفبرك ما تشاء من أخبار، بعد أن تورد عبارة «وأكد مصدر طلب حجب اسمه».

وبغضّ النظر عن معاداة ترامب للصحافة التي أصبحت معروفة للقاصي والداني، فإن ظاهرة «المصادر المحجوبة»، خصوصاً إذا تطورت إلى «عليمة» و«مطلعة» و «رفيعة»، كما يحدث كثيراً في الصحافة العربية، هو أخطر ما يهدد صدقية الصحافة في كل مكان.

في الصحافة الأميركية، وقعت صحف كبرى بحجم «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست»، من هذا المدخل، أسيرة تقارير ثبت لاحقاً أنها غير صحيحة، كان من أبرزها تقرير جوديث ميللر الشهير في (تايمز) عن وجود أسلحة دمار شامل في العراق، والذي اعتبر عمود الدعاية التي استندت إليها الحرب الأميركية على هذا البلد العربي عام 2003، وتقرير «طفل الهيروين»، الذي فبركته جانيت كوك ونشرته «واشنطن بوست» في 28 أبريل عام 1980، وفازت به كوك بجائزة بوليتزرعام 1981، ثم اضطرت لاحقاً لإعادة الجائزة بعد اعترافها بالفبركة.

لكن على أية حال، ومهما قيل عن كوارث تقارير «مصدر طلب حجب اسمه»، فإن مهنة البحث عن المتاعب قد طورت نفسها ومناعتها إلى حد كبير، ضد هذا الداء. فمراصد الصحف توالدت إلى الحد الذي أصبح هناك أحياناً أكثر من مرصد يراقب الصحيفة الواحدة، وديسكات الصحف تطورت إلى حد مراجعة مقالات الرأي، وصناعة طويلة عريضة تأسست أخيراً اسمها «الفاكت شيكر» (صناعة تدقيق الحقائق) لديها مواقعها الإلكترونية، ومراكز أبحاثها وخبراؤها، بل وتستعين بعض الصحف الكبرى الآن في طواقم تحريرها ببعض هؤلاء الخبراء، علاوة على أن «فيس بوك» و«تويتر» ووسائل التواصل الاجتماعي ترد في كل شاردة وواردة، على كل من تسوّل له نفسه بأن يزوّر خبره في التو واللحظة.

صحيفة «أورلاندو سينتانيل» الأميركية انزعجت بشدة من معايرة ترامب للصحافيين بنقيصة «مصدر حجب اسمه»، لكنها قررت أيضاً أن تستفيد المهنة من الهجوم فتطرح القضية للنقاش العام.

فقد أقرت الصحيفة في حالة من الصفاء والصدق مع النفس، بأن الظاهرة عيب خلقي (بكسر الخاء) حقيقي موجود في صلب تكوين الصحافة، لكنها دافعت عن نفسها بنشر المعايير الصارمة التي تلزمها في نشر التقارير التي تتضمن تصريحات لهذه المصادر، أولها أن هذا المصدر وإن كان مجهولاً فعلاً للقارئ، فهو ليس مجهولاً للصحافي الذي يقدر حجم صدقيته - أي صدقية هذا المصدر - وأنها، أي الصحيفة، تعتبر تقدير صدقية المصدر جزءاً من تقييمها لصدقية الصحافي، وثانيها أن رئيس القسم في الصحيفة، التي ينتمي إليها المحرر ومدير التحرير ورئيس التحرير، يكون على علم بهذا المصدر الذي يخفيه المحرر عن القراء، وثالثها أن المعلومات التي يقولها هذا المصدر، الذي طلب حجب اسمه، تكون ذات أهمية استثنائية تستحق (المغامرة)، وأن المحرر ورؤساءه يضطرون لذلك، بعد أن يكونوا قد بذلوا كل جهد ممكن في الحصول على المعلومة من مصدر معلوم، أو بذلوا جهداً لمحاولة إقناع (المصدر الذي طلب حجب اسمه) بالسماح بكشف هويته.«أورلاند سينتانيل» أقرت بصعوبة الأمر، وفداحة ضريبته، لكنها لم تنسَ أن تختم ردها على غزوة «مصدر حجب اسمه» بالقول إن الرئيس الأميركي الحالي نفسه، هو أكثر من لجأ إلى «المصادر المجهولة» في خطاباته، حيث يستعمل لازمة «كثير من الناس تقول» ليمرر بعضها ما يشاء، وأن ترامب أيضاً استخدم هذا الحجب، حين قال كذباً ضمن حملته الانتخابية نسبة لمصدر مجهول إن «أوباما ولد خارج أميركا». كما كشفت الصحيفة أن الساسة الذين يشهّرون بالصحافة ليسوا بعيدين عن كبواتها، وأن قصة الفبركات، كثيراً ما يصنعها «السياسيون»، ويقع فيها «الصحافيون».

تويتر