«تحد».. هولوكست في توقيت سيئ

دانيال كريج في مشهد من الفيلم. آوت ناو

فيلم جديد عن «الهولوكست» لكن بطريقة مغايرة هذه المرة لها أن تتناغم بنظرة متفحصة مع مجازر غزة الأخيرة؛ كون الفـيلم يحـمل ما له أن يكون مقاومة يهودية ضد القوات النازيـة، الأمـر الذي يمكن اعتبـاره جـديداً في أعراف السرد السينـمائي للهولوكـست، والتـي عودتـنا على أن اليهود ضحايا بلا حول ولا قوة، ضحـايا فقط لا غير.

أفلام لا حصر ولا عدّ لها تناولت المجازر النازية لليهود، لا بل صار عرفاً لصيقاً بكل الأفلام التي تناولت الحرب العالمية الثانية، فإن لم نكن أمام فيلم مثل «قائمة شندلر» لستيفن سبيلبيرغ فإن «عازف البيانو» لرومان بولانسكي سيفي بالغرض، أو «الحياة حلوة» أجمل أفلام روبرتو بينيني، أو أي شخصية لها أن تظهر في أي لحظة وفي أي فيلم، حيث سنعرف من الدمغة التي تحملها أنها من الناجين من المحرقة، وعلى شيء من التذكير الحي دائماً بالضحية اليهودية، وعلى شيء من جلد ضمير أوروبا الجمعي والحرص على تحميله عبء إثم له ألا يفارقه مهما فعل.

نحن دائماً حيال الضحية اليهودية، وفي حضرتها وهي تتلقى القتل النازي الممنهج، دون أي رد فعل، وعلى شيء من العجز التام عن الخلاص من مصير لا راد له، هذه حقيقة حاضرة في كل الأفلام، عدا فيلم Defiance (تحد) الذي بدأ عرضه في الولايات المتحدة الشهر الماضي، وفي توقيت ليس لنا إلا أن نصفه بالمدهش، كونه يأتي متزامناً مع مجازر غزة التي ليست إلا تأكيداً جديداً على احتكار اسرائيل بعد الحرب العالمية الثانية مع كل إرثها «الهولوكستي» لدور الجلاد واقعياً، وفي غياب تام لملامح الضحية التي أمست فلسطينية بامتياز.

لم ينج فيلم «تحد» الذي أخرجه ادوارد زويك صاحب الأفلام الشهيرة ـ ولعل أول ما يتبادر إلى الذهن رائعته «أساطير الخريف» ـ من اتهامات المتعصبين اليهود له في أكثر من منتدى بمعاداة السامية وما إلى هنالك من اتهامات جاهزة لم تكن أبداً في وارد العاملين فيه، ولا في خاطر أي مشاهد مادام أن الفيلم من أوله إلى آخره يقدم ملحمة بطولية يهودية، واستعادة لما لحق باليهود ووفق كل متطلبات التعاطف وغيرها من مشاعر، لكن ومرة أخرى إنه التوقيت، ولسان حال منتقديه يقول: يجب عدم التشويش على إسرائيل، إنها تقتل الأطفال بدم بارد، فرجاء عدم الإزعاج، اتركوا أفلام الهولوكست لفترات الهدوء وإن كانت قليلة.

تجري أحداث الفيلم في روسيا البيضاء (بيلاروسيا) ويبدأ بالأبيض والأسود كما لو أننا أمام صور وثائقية، لكن سرعان تتلون تلك الصور، ونتابع مشاهد قتل الجنود الألمان لأهالي قرية، ومن ثم تعرفنا إلى الإخوة بيلسكي الذين ينجون من القتل ويمضون إلى الغابات بحثاً عن الأمان، وليلتحق بهم الأخ الأكبر توفيا (دانيال كريج)، لكن مع إدراكنا أن جميع أفراد عائلتهم قد قتلوا على يد الجنود الألمان.

مع كل يوم يمضي يعثروا هؤلاء الإخوة على ناجين من المجازر النازية، ويتحول الإخوة وعلى رأسهم توفيا إلى ملاذ لكل الناجين، وليقوم ببناء مخيم لهؤلاء اللاجئين.

الصراع الرئيس في الفيلم سيكون بين توفيا من الجهة وأخوه الأصغر زوس (ليف شروبير)، حيث يؤمن هذا الأخير بالمقاومة وضرورة الثأر من الألمان، الأمر الذي يوافقه فيه توفيا في البداية، خصوصاً لدى قيامه منفرداً بقتل شرطي محلي يكون هو من كان يدل الألمان على اليهود، يقتله وأولاده في لحظة يتصاعد فيها حقده، ومن ثم يشارك زوس في مهاجمة دورية ألمانية، وليعزف توفيا عن ذلك، ويفترق عنه زوس الذي يقرر الانضمام إلى الجيش الروسي والمشاركة ومجموعة من أتباعه في أعمالهم الحربية ضد الألمان.

تلك هي منطلقات الفيلم الرئيسة، وما تبقى متروك لتعقب خيار كل أخ على حدة، فمن جهة نتابع ما يتبعه توفيا من نظم ومفاهيم في إدارة مخيم اللاجئين، وحجم المصاعب اليومية التي يتعامل معها بحكمة تستند إلى مبدأ رئيس يتمثل بأن البقاء على قيد الحياة هو أهم فعل مقاومة، بينما يواصل زوس انتقامه بدأب تحت قيادة السوفييت.

في النهاية سيحسم السلاح الخيارات، فمخيم توفيا لن يكون بمنأى عن هجمات الجيش الألماني، لا بل إنه سيقصف بالطائرات، وستتقدم القوات البرية تجاهه، ولن يكون أمامه إلا الدفاع والاستماتة في حمايته، كما أن الروس لن يكونوا أخياراً، فسرعان ما يكتشف زوس خداعهم وعنصريتهم اتجاهه ومن معه ـ هذا من بديهيات «هوليوود» ـ وعليه يلتقي مجدداً توفيا وزوس عند خيار المقاومة، ونجاحهما بتحقيق نجاة أغلب من في المخيم ونقلهم إلى مكان جديد آمن.

تفاصيل كثيرة يصورها الفيلم، الجوع الذي يجتاح المخيم، علاقات الحب، النقاشات والتباينات، لكن يبقى أهم دافع لمشاهدة هذا الفيلم، هو توقيته، قدرته «غير المقصودة» على تقديم المفارقة التاريخية التي تتسيد المنطق الاسرائيلي.
تويتر