الصين بين الماضي والحاضر

بكين بدأت باستخدام الدراجة الهــــــوائية وانتهت بالقطار الأعلى سرعة

صورة

عادت الصحافية الغربية، آن سكوت تايسون، إلى الصين بعد عقود من الزمان، لتجد تغييراً كبيراً اعترى هذه الدولة الآسيوية. فبعد أن كان معظم سكانها يستخدمون الدراجات كوسيلة للمواصلات، أصبحوا يستقلون الآن ما يسمى بـ«القطار الطلقة»، وهو الأسرع في العالم، والذي ينزلق على وسادة مغناطيسية، وتتسارع خطاه رويداً رويداً بعد مغادرته مطار بودونغ الدولي في شنغهاي، نحو هذه المدينة ذات الأربعة والعشرين مليون ساكن. في الخارج تتكشف للعيان مدن مستقبلية، وناطحات سحاب تتلوى في الأفق، وطرق سريعة مرتفعة مضاءة. داخل القمرة يظهر عداد سرعة القطار الرقمي فوق البوابة، يرتفع بسرعة نحو الـ200 كلم في الساعة ثم الى 300 ثم 431. تبدو القمرة مزدحمة، ولا يبدو على راكبيها المتأنقين اندهاشهم بأسرع قطار في العالم، بعض الركاب يحدقون باستمرار في شاشات هواتفهم الذكية، لا أحد يتكلم، وبعد أقل من ثماني دقائق يهدّئ القطار من سرعته، ويهبط منه الركاب.

قبضة الاستبداد

في الجانب الآخر يشدد قادة الصين قبضتهم الاستبدادية على الشعب. كما تعتقد منظمة «فريدوم هاوس»، وهي مجموعة مراقبة مستقلة، أن بكين تقمع المنظمات غير الحكومية، وتعتقل النشطاء ونشطاء حقوق الإنسان، والمدوّنين. كما تقوم ببناء دولة مراقبة بأجهزة عالية التقنية، حيث تستخدم السلطات الكاميرات، بعضها معزز ببرنامج التعرف الى الوجه والذكاء الاصطناعي، لمشاهدة الناس، كما أن الدولة غير متقيدة بمراعاة الخصوصية، وكثيراً ما يتم مراقبة الأفراد لاكتشاف سلوك «مشكوك فيه» في العمل وفي الأماكن العامة، وكذلك عبر الإنترنت وعلى الهواتف الشخصية.ويتدخل المسؤولون الصينيون في الإنترنت، ويعرقلون مواقع الويب، وينشرون تعليقات وسائل التواصل الاجتماعي ويحذفونها، ويدققون في النصوص، ويخضع التلفزيون الأجنبي للرقابة في الصين. وتقول الصحافية: «رأيت محطات مثل (سي إن إن) و(بي بي سي) تتوقف عندما يتحول التعليق إلى انتقاد شديد للحكومة»، ويسيطر الحزب على الجامعات، حيث يتم تصوير المحاضرات بالفيديو.

• الصين لا تحاول تحقيق ثورة بعد الآن بل صناعة الثورة التي هي أكثر صحة.

• الصين أعادت نفسها بسرعة كبيرةإلى «الثروة والقوة»

تقول الصحافية: «عدتُ إلى الصين، لكنني أشعر بأنني في عالم بعيد كل البعد عن البلد الذي زرته أول مرة منذ عقود. فقد استقبلني منظر طبيعي رمادي جامد، عندما طرت إلى بكين في يوم شتوي في نوفمبر من عام 1983، وكان طريق المطار مقفراً إلا من عدد قليل من الناس يتدثرون بملابس بالية، ويستقلون الدراجات الهوائية والمركبات الملونة التي تجرها الخيول. كنت خريجة جديدة وجئت إلى هنا كمراسلة مبتدئة».

جاءت تلك الصحافية الى هنا أول مرة بعد سبع سنوات فقط على وفاة الزعيم الصيني، ماو تسي تونغ، في عام 1976 وبعد نهاية الثورة الثقافية المتعصبة. وكان البلد معزولاً وضعيفاً، ويعاني سكانه، البالغ عددهم مليار شخص، الركود الاقتصادي والمجاعة والتطهير السياسي.

وعلى مدى معظم سنوات العقد التالي، عاشت الصحافية في بكين وهونغ كونغ، واتخذت مقعداً في الصف الأمامي من الأحداث، عندما بدأ الزعيم البراغماتي دنغ شياو بينغ، بالتخلص من الشيوعية والميل نحو الرأسمالية، لتنطلق الصين نحو حياة أفضل. في ربيع عام 1989، شاهدت حشوداً مؤيدة للديمقراطية عندما تجمع مئات الآلاف من الصينيين فى ميدان تيانانمين في بكين، لمواجهة حملة عسكرية وحشية في 4 يونيو.

تعرض العديد من مصادرها الخاصة للسجن، وهرب بعضهم خارج البلاد. قلة من الصينيين تجرأوا على التحدث معها. تقول: «اعتدت على اصطحاب ابني الرضيع للتنزه في حديقة ريتان (معبد الشمس) بالعاصمة بكين، كإحدى الوسائل للحصول على مصادر صحافية غير مؤذية، وعلى الرغم من ذلك يتتبعني رجال الشرطة الذين يرتدون ملابس مدنية، وفي وقت لاحق، تمكنت من الهروب من السلطات وسافرت للحصول على قصص حية من العديد من الصينيين، والتي نشرت في كتاب شاركت في تأليفه. وبحلول الوقت الذي غادرت فيه عام 1992، كانت الصين بالنسبة لي موطناً ثانياً، اذ تحدثت باللغة الصينية وحلمت بها، وفي العديد من النواحي، كنت أعرف عن الصين أفضل مما عرفته عن بلدي»، وتمضي قائلة: «عدت الآن لزيارة ابني في شنغهاي، واتطلع لإعادة اكتشاف الصين بعد 25 عاماً، وأريد أن أعرف ما إذا كان في استطاعتي التواصل مرة أخرى مع هذه البلاد».

تغيير سريع الوتيرة

أكثر ما يثير الدهشة في شنغهاي والبلاد ككل هو التغيير سريع الوتيرة، والتطور الدراماتيكي في كل شيء. الصين، كما هو معروف، أصبحت أكبر دولة تجارية في العالم. وانتشل النمو المتزايد أكثر من 700 مليون صيني من الفقر منذ عام 1990، ما خلق طبقة وسطى قوية ومئات من المليارديرات بعد هجرة جماعية من القرى للمدن، وأكثر من نصف الصينيين يعيشون الآن في المدن.

يقول الدبلوماسي الأميركي المخضرم، تشاس ف. فريمان: «لقد أعادت الصين بسرعة كبيرة نفسها إلى (الثروة والقوة)». يتذكر فريمان وصوله إلى مطار شنغهاي في عام 1972 كمترجم للرئيس الأميركي الراحل، ريتشارد نيكسون، خلال زيارته التاريخية للصين، ويقول: «لم تكن هناك طائرات في الصين، لقد كانت صحراء ثقافية في خضم ثورة ماو الثقافية». اليوم، أصبحت شنغهاي مدينة عالمية مزدهرة، كل شيء فيها أنيق مثل باريس أو نيويورك، ومع عدد أكبر من الناس من أي مدينة أخرى مماثلة في العالم.

تقول الصحافية: «أرى من نافذة شقة ابني، ناطحات السحاب تمتد عبر الأفق، وهناك في الأسفل يتدفق الناس عبر الشوارع المزدانة بالأشجار، شنغهاي لديها الآن 1000 خط للحافلات، وأكبر نظام مترو أنفاق في العالم، وتفخر المدينة بميناء الحاويات الأكثر ازدحاماً في العالم، ورابع أكبر بورصة دولية». ويقول فريمان: «إن الصين لا تحاول تحقيق ثورة بعد الآن، بل تريد صناعة الثورة التي هي أكثر صحة».

أصبح الصينيون يسافرون داخل بلادهم أكثر من أي وقت مضى. وعلى الواجهة البحرية التابعة للعهد الاستعماري في شنغهاي، تتحلق حشود من السياح الصينيين للاستماع إلى المرشد السياحي، وهو يصف هذه المنطقة بـ«قرن من الإهانة» تحت القوى الأجنبية. وفي الواقع، فإن عدد السياح الصينيين يفوق عدد السياح الأجانب في كل موقع تاريخي، بدءاً من جبل هوانغ في الجنوب إلى الكهوف البوذية على حافة صحراء غوبي.

إلا أن شنغهاي لا تمثل سوى جانب واحد من قصة الصين. فإذا توجهت من هناك إلى الغرب، إلى المناطق النائية، ستجد واقعاً مختلفاً. «توجهت بالقطار عبر مقاطعة قانسو الوعرة، التي تقع على طول ما كان يعرف ذات مرة بطريق الحرير القديم في الصين، نظرت من خلال شباك القطار، وكنت أتوقع أن أرى المزارعين بحقولهم في المدرجات، ولكن بدلاً من ذلك، رأيت منظراً مختلفاً، وشاهدت مجموعات قليلة من المنازل المتداعية قليلة السكان، ومجموعات ضئيلة من الناس تحصد القطن. ويبدو القطار شبه خالٍ أيضاً، مقارنة مع القطارات ذات المقعد الصلب، التي ركبتها منذ سنوات، ولم تعد هناك حشود من الناس، تتزاحم وتدردش مع بعضها بعضاً على المقاعد الخشبية وتأكل بذور عباد الشمس، وتشرب شاي الياسمين من أكواب ملونة».

مدن الأشباح

في بعض الأحيان، يمر القطار بـ«مدينة أشباح»، التي هي عبارة عن كتل متناثرة من الشقق الحديثة الشاهقة غير المأهولة، كدليل على الجهود الحكومية غير المجدية لجذب المزيد من الصينيين إلى المنطقة النائية. وتظهر مزرعة طواحين هواء ضخمة تحوي الآلاف من التوربينات الغريبة المظهر بلا حراك، بسبب نقص الطلب على الطاقة وخطوط النقل.

تويتر