يتعين على واشنطن إعادة قواتها إلى الوطن

أميركا لن يكون لها رأي في تشكيل مستقبل سورية

صورة

دمشق مدينة ضخمة ومزدحمة، وتليق بأن تكون العاصمة السورية، ويعيش فيها نخبة المجتمع السوري، وهي تضم المباني الحكومية وقوات الأمن. وتنتشر صور الرئيس السوري، بشار الأسد في كل مكان من هذه المدينة، حيث إنه لم يترك أي شك حول من هو الزعيم هنا. ولكن بعد قيادة السيارة لدقائق عدة في شوارع العاصمة، فإنك ستدخل إلى حي جرى استرجاعه بعد قتال مرير، حيث تقف المباني المدمرة صامتة وسط بحر من الركام. وكانت المذبحة التي استمرت سبع سنوات على شكل حرب أهلية، قد وصلت إلى شوارع دمشق فعلاً.

لكن في نهاية المطاف وصل الصراع إلى نهايته، وخسرت واشنطن، وإن كانت آثار الحرب ستظل ماثلة لسنوات عدة، وربما عقود. لقد كان أسلوب أميركا في التعامل مع هذه الحرب يمثل فشلاً كارثياً. وكما هي الحال في الحرب الأهلية اللبنانية، التي حدثت منذ عقود عدة، فقد كان الصراع السوري عبارة عن حرب أهلية بالغة التعقيد، وكان الصراع وحشيا في كل مكان، وكانت القوات المتحاربة المتعددة مسؤولة عن مقتل نحو نصف مليون شخص.

دعم قوي

وانتصر الأسد بالطبع الذي كان يتلقى الدعم من طائفته العلوية، وكذلك الأقليات الدينية الأخرى، مثل المسيحيين الذين اعتبروه حامياً لهم. وتمكن الجيش من الحفاظ على نفسه، على الرغم من أنه عانى ضربات موجعة، الأمر الذي تطلب حشد مجندين إلزاميين، وكانت المناطق التي زرتها - الحديث للكاتب - تنتشر فيها صور القتلى.

وركزت الولايات المتحدة بالخطأ على الأسد، وبالطبع هو لم يكن صديقاً للولايات المتحدة، ولكنه لو خسر المعركة، فإن أحداً غيره سينتصر. وكان يتعين على واشنطن التركيز على قضية مَن الأفضل بالنسبة لها، وهل كان الأميركيون يشاركون في الحرب بحيث أنهم يقودونها إلى نتيجة أفضل؟ وأظهرت الأزمة العراقية أن أميركا عند تدخلها يمكن أن تجعل الأمور في حالة أسوأ.

كان الأسد ديكتاتوراً لكنه كان علمانياً، والمجتمع السوري كان متحضراً، وعلى الرغم من وجود محافظين دينيين، إلا أن هناك خليطاً من العلمانيين والمتمدنين في سورية، وهو الأمر الذي ترتاح إليه أميركا. وبالطبع فإن أميركا أرادت حقاً سورية ديمقراطية وليبرالية. وهو أمر يستحق العمل من أجله، ولكن ليست هناك أي مجموعة مسلحة يمكن أن تؤدي إلى وصول سورية إلى مثل هذا المستقبل، وحتى الأطراف التي وصفت بالمعتدلة ربما لم تكن قادرة على نقل سورية إلى الليبرالية.

وعلى كل الأحوال، فإن ما عرف بالجيش السوري الحر ثبت أنه كان ضعيفاً، ففي أحد البرامج أنفقت الولايات المتحدة نصف مليون دولار على تدريب 54 مقاتلاً منهم، لكنهم قُتلوا أو وقعوا أسرى. وقدمت الولايات المتحدة الدعم لمجموعات خسرت معظم المعارك التي دخلتها، وانتهى بها الأمر إلى تسليم نفسها مع أسلحتها إلى مجموعات أخرى راديكالية.

وكان البديل خليطاً من المتطرفين، بمن فيهم «جبهة النصرة» التي دعمتها واشنطن، وكذلك تنظيم «داعش» الذي عارضته واشنطن. وإضافة إلى ذلك فإن تركيا ركزت على الإطاحة بالأسد، وسمحت لتنظيم «داعش» بالانتقال عبر الأراضي التركية، وبيع البترول الذي حصل عليه من سورية.

لكن هل كانت إدارة الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، مقتنعة بأن السوريين والأميركيين سيستفيدون من تمكن إحدى هذه المجموعات من التفوق والانتصار؟ كان الدعم الأميركي لـ«جبهة النصرة» غريباً بالنظر إلى أنها كانت مرتبطة مع تنظيم «القاعدة» المسؤول عن حوادث 11 سبتمبر.

ولكن في مثل هذا الصراع متعدد الجبهات، فإن الدعم الأميركي للجيش السوري الحر، انتهى به الأمر إلى دعم المتطرفين. وكانت حكومة الأسد القوة الأقوى التي قاتلت تنظيم «داعش»، والمتطرفين الآخرين. وتمكن الجيش السوري الحر من إضعاف دمشق فحسب وليس السيطرة على السلطة في الدولة، ولكن الدعم الأميركي القتالي المستمر كان مستحيلاً من الناحية السياسية.

وفي الحقيقة فإن السياسة الأميركية لم تكن ميؤوساً منها فحسب، وإنما كانت غير متناسقة وتعمها الفوضى. وحاولت إدارة أوباما الإطاحة بالأسد وهزيمة «داعش»، على الرغم من أن الأسد حارب هذا التنظيم المتطرف. وعن طريق تقديم الدعم للجيش السوري الحر، ومحاربة «داعش» منحت واشنطن نظام دمشق محفزاً للتركيز على الجيش الحر وتجاهل «داعش». وعارضت الولايات المتحدة مجموعات راديكالية أخرى. وحاولت واشنطن العمل مع تركيا التي كانت أولويتها منع سيطرة الأكراد على شمال سورية، والأكراد الذين كانوا مستعدين للتعاون مع نظام دمشق لتحقيق سيطرتهم على شمال سورية والحصول على حكم ذاتي فيها.

ودانت واشنطن دعم روسيا وإيران للحكومة السورية، على الرغم من أن الأسد هو الذي طلب هذا الدعم. وعلى الرغم من رفض واشنطن مساعدة موسكو وطهران لحكومة دمشق، إلا أنها انتهكت القانون الدولي للتدخل ضد دمشق، وادعت أنها تملك الحق كي تحدد مستقبل سورية، وفي واقع الأمر فإن القوات الأميركية لاتزال تحتل أراضي سورية بصورة غير شرعية، على أمل إجبار الأسد على التخلي عن السلطة.

النظام آمن

لكن النظام يشعر بحالة من الأمان أكثر من أي وقت مضى منذ عام 2011، ولا تملك إدارة الرئيس، دونالد ترامب، السلطة على الغزو والاحتلال وتفكيك دولة أجنبية أخرى، مهما كان السبب. وإضافة إلى ذلك فإن فشل واشنطن في حماية أكراد سورية من الهجوم التركي، شجعهم على التفاوض مع حكومة دمشق. ويمكن أن تسفر سيطرة نظام دمشق على منطقة شمال سورية، خصوصاً المنطقة الحدودية، إلى زيادة المخاوف التركية من قيام دولة كردية مستقلة.

ولا تستطيع واشنطن إخراج «حزب الله» وإيران وروسيا من سورية، إذ إنهم جميعاً حلفاء سورية، كما أن لديهم مصالح مهمة أكثر من واشنطن في ما يتعلق بمستقبل سورية. ودورهم أكثر أهمية وشفافية أيضاً.

وقد ذهبت إلى قاعدة حميميم الجوية التي يقيمها الروس بالقرب من الساحل السوري. وبينما كنت على الساحل وقفت سيارة روسية، ونزل منها جنود روس وقاموا بشراء الأطعمة. وكانت صورة الأسد مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وزعيم «حزب الله»، حسن نصرالله، منتشرة في كل مكان، ومشيت في دمشق بجانب أحد المساجد، الذي علمت أنه مخصص لـ«حزب الله».

ويتعين على واشنطن إعادة قواتها إلى الوطن، فلا سورية ولا العراق يشكلان تهديداً على الولايات المتحدة. وكان تصنيف سورية بأنها دولة داعمة للإرهاب له أبعاد سياسية، يعكس دعم سورية لمجموعات مثل لحركة (حماس) تعتبر معادية لإسرائيل، ولكن منذ عام 1973 تعيش سورية في سلام تام مع إسرائيل، وهذا لن يتغير. والاهم من كل شيء أن دمشق أكثر ضعفاً من أي وقت مضى، نتيجة هذه الحرب الأهلية، وسيكون تركيزها الوحيد على إعادة البناء.

وفي كل الأحوال فإن الرئيس ترامب لا يملك التفويض الملائم لاحتلال سورية من دون موافقة الكونغرس، وليس هناك هدف يبرر موافقة الكونغرس. وفي واقع الأمر فإن خطة واشنطن في رفض تقديم المساعدة لتلك المنطقة في ظل سيطرة الحكومة السورية يبدو ضبابياً ومشكوكاً فيه.

وهناك حجج معقولة تدفع أميركا للحفاظ على أموالها، لكن الفكرة التي تفيد بأن حجب المساعدات الأميركية سيعزز الاضطرابات ويسبّب الثورة هي فكرة خيالية.

لقد كانت الحرب الأهلية السورية كارثة كبيرة جداً، وآمل على المدى البعيد أن تصبح هذه الدولة أكثر ديمقراطية وليبرالية، ولكن ليس هناك أي شيء يبرر الانخراط العسكري الأميركي في هذا البلد. وكانت محاولة أميركا إحداث تغييرات اجتماعية بصورة قسرية قضية غير واقعية. وينبغي على إدارة ترامب وضع حد لآخر مغامرة سيئة في الشرق الأوسط.

أهداف ترامب

تحوّلت أهداف ترامب في زمن الحرب إلى خيال صرف، ولم يهدد أي تنظيم معارض نظام الأسد. وعند بداية الحرب كانت ضواحي دمشق مشتعلة بشدة، حيث كانت القنابل تنفجر في العاصمة نفسها، وظهرت مجموعات معارضة جديدة باستمرار، وأصبح الجيش السوري الحر في حالة تمدد كبيرة. وخلال تلك الفترة كان قلة من المراقبين يتخيلون أن الأسد يمكن أن يستعيد السيطرة على معظم الأراضي السورية، لكنه اليوم تمكن من هزيمة كل خصومه، وأصبح سكان دمشق متفائلين كثيراً بالمستقبل.

ولم تعد هناك أي ضغوط على سورية لأن تصبح ديمقراطية. ولطالما ظهر المعارضون المعتدلون باعتبارهم قوة خيالية توقع الغرب منهم إنجاز عمل خيالي بقوة سحرية، وكانوا مستعدين لمنح المعارضة شرعية دولية، لكن اتضح أنهم غير جديين في التنافس على السلطة السورية. وفي الوقت الحالي لم يبقَ من كل تلك المعارضة سوى المتطرفين والأكراد. وعلى سبيل المثال، فإن السيطرة في إدلب تتركز في يد هيئة تحرير الشام، وهي حليف تنظيم «القاعدة» ومدعومة من تركيا.

وتهدد حكومة الأسد بالهجوم على إدلب، ما دفع موسكو وأنقرة إلى التوصل إلى اتفاق لمنع حدوث الهجوم، ولكن النظام السوري مصمم على أنه يستطيع استعادة إدلب بسرعة، ولن يؤدي ذلك إلى وقوع الكثير من الضحايا. وتقوم القوات الأميركية بدعم الأكراد في شمال سورية، حيث يسيطر هؤلاء على ثلث الدولة السورية. وفي الوقت ذاته تأمل واشنطن الضغط على الأسد كي يوافق على الحل الذي تريده، عن طريق حرمانه من النفط والسكان والمنطقة التي يسيطر عليها الأكراد.

- الأسد كان ديكتاتوراً

علمانياً،

والمجتمع السوري

كان متحضراً. وعلى

الرغم من وجود

محافظين دينيين، إلا

أن هناك خليطاً من

العلمانيين والمتمدنين

في سورية، وهو

الأمر الذي ترتاح إليه

أميركا.

دوغ باندو : خبير في معهد كاتو للدراسات.

 

تويتر