ديفيد فينشر قراءة بشروط مسبقة


في المشاهدة، أو القراءة، أو أي فعل تلقٍ لعمل إبداعي ثمة خلل زمني؛ ما إن يقع حتى يتحوّل إلى ما يشبه اللعنة، وهذا تماماً ما طال ديفيد فينشر، بالنسبة إليّ على الأقل، حين شاهدت له فيلم «فايت كلب» (نادي القتال) بطولة براد بيت وإدوارد نورتون، بحيث بدت كل أفلامه السابقة لهذا الفيلم واللاحقة له مصدر خيبة لا لشيء إلا لأنني كنت أبحث فيها عن «نادي القتال».
 
 بداية لا بأس بتطرفها بعض الشيء، بمقدورها إيضاح لما لم أجد الكثير في «زودياك» آخر أفلامـــه والذي على كل من يعرف فينشر أن يضعه إلى جانب فيلم «سيفن» (سبعة) الشهير، هذا لم يحدث وبقيت على إيماني بأن على فينشر أن يفعل شيئاً مثل (نادي القتال)، وربما أحد غيره.
 
 لعل اسم ديفيد فينشر هو الأكثر تردداً من بين المخرجين الذين سرعان ما ينسحبون من فيلم، أو يُسحب منهم، ولعل قائمة طويلة في هذا الصدد كان آخرها فيلم «ذي بلاك داهليا» (الداليا السوداء)، إضافة للجزء الثالث من «ميشن ايمبوسيبل» (مهمة مستحيلة)، وعليه مازالت حصيلة أفلامه قليلة نسبياً، إلا أن فيها ما لا يمكن تجاهله، لكن ومجدداً يبقى (نادي القتال) إنتاج عام 1999 أكثرها سطوعاً، بحيث شكّل للكثيرين كشّافاً لماهية ما وصل إليه التمرد المعوّلم،
 
والذي قدّمه فيشر بالاتكاء على رواية الكاتب الأميركي شاك بولانيك التي حمل الفيلم عنوانها، حيث يقدم التمرد ومناهضة أخلاقيات الرأسمالية بوصفه حلماً ذاتياً مدمراً، ليس للطبقات الدنيا في العالم إلا أن تتمثله، بحيث يظهر جلياً ما أطلق عليه الناقد السينمائي الشهير روجر ايبر «بورنو الزعران» إن صحت الترجمة.
 
(نادي القتال) نقطة انعطاف في مسيرة هذا المخرج، رغم أنه لم يحقق ذلك عبر شباك التذاكر، بل من خلال القراءات النقدية، ومن ثم الـ «دي في دي»، بحيث أعيد اكتشافه مراراً، لكن هذا النجاح لم يفتح أمامه أبواب النجاح، فحسبما يقول فإنه انتظر ثلاث سنوات ليجد ما يخرجه قاصداً بذلك فيلم «بانيك روم» (غرفة الهلع) عام 2002
المجال الحيوي لهذا المخرج كما أبدت لنا الأيام، وأقصد اللعب على ثيمة تشكل محور بناء خيوط الفيلم، والمنبع الرئيس للتشويق والإثارة، فإن كانت الغرفة قد شكلت ذلك أي نقطة التقاء التشويق والرعب في فيلم «بانيك روم»، فإن اللعبة أو مفهوم اللعب المتخطي للخيال شكل ذلك في فيلم «ذي غايم» (اللعبة) عام .1997 أما «زودياك» الذي كان طويلاً لدرجة وصوله إلى 158 دقيقة، فإن على المرء أن يعيد تأكيد أن أجمل ما حمله هو مصائر الشخصيات التي عاشت بالقرب من جرائم القاتل المتسلسل زودياك نفسه،
 
والمساحة التي يمنحها عمر الجرائم الطويل أمامنا للتعرف إلى نهايات كل واحدة على حدة، والتغيّرات التي طرأت عليها من جراء تلك الجرائم. أولاً شخصية روبرت غريسميث (جاك غيلنهل) صاحب الكتاب الذي أخذ عنه الفيلم، والذي يكون رساماً في جريدة «سان فرانسيسكو كرونيكل» وليصاب مع النصف الأخير من فيلم، بهوس الكشف عن حقيقة من هو زودياك، بعد أن تكون جميع بوادره بادية عليه منذ بداية الفيلم، ومن ثم المحقق ديفيد توتسي (مارك رافيلو) الذي ينفق عمره في تلك القضية،
 
 وشريكه المحقق ويليم أرمسترونغ (انتوني ادواردز)، إضافة للصحافي بول ايفري (روبرت دوني) الذي يستقيل من «كرونيكل» ويتحول إلى مدمن كحول ومخدرات بعد أن كان السبق الصحافي في تلك القضية مرتبطاً باسمه. أتوقف عن متابعة الحديث عن «زودياك» لتدارك حقيقة أن (نادي القتال) يقف على كِفة وحيداً، وفي الكفة الأخرى أفلام فينشر الأخرى، دون تفويت تأكيد أنها جميعاً محكمة لا يفارقها الإيقاع المدوي.
تويتر