أفضل فيلم لستيفن سودربيرغ

«نو سادن موف» يكتب تاريخاً جديداً لسينما «نوار» الخمسينات

صورة

يعود صانع الأفلام الأميركي الجريء ستيفن سودربيرغ إلى قناة البث التدفقي (ستريمنغ) «إتش بي أو ماكس» بفيلم تجريبي ليس الأول من نوعه، ولكنه الأول بالطريقة التي أخرجه بها سودربيرغ. هذا الرجل كان تجريبياً في بداياته، ثم تقاعد ثلاثة أعوام وعاد تجريبياً بشكل جنوني أكثر من السابق إلى درجة تصويره فيلمين بجهاز «آي فون».

فيلم No Sudden Move، ولا نتفق مع عنوان الفيلم، صنع بأقوى مجموعة متنوعة من النجوم في مسيرة سودربيرغ المعروف بقدرته البارعة على توزيع الأدوار على أسماء كبيرة في السينما.

ينتقد الفيلم الفساد في المجتمع الصناعي الأميركي في خمسينات القرن الماضي حيث تدور الأحداث في مدينة ديترويت عام 1954، وتتقاطع انتقادات الفساد مع أخرى مسلطة ضد التوجه العنصري ضد الأقلية السوداء في المدينة نفسها. وهذه موضوعات تناولها سودربيرغ سابقاً في أفلام «ترافيك» عام 2000 و«إيرين بركوفيتش» 2001 و The Girlfriend Experience عام 2009 و High Flying Bird في 2018.

دائماً ما تتناول أفلامه قصصاً عن مؤامرات أو شخصيات بأجندات سرية تنتهي غالباً بتغلب الفاسدين، وهو موضوع كان محرماً أو نادراً تناوله في أفلام هوليوود بالأربعينات والخمسينات التي يحاول سودربيرغ تجديدها عبر هذا الفيلم.

سودربيرغ صانع أفلام اقتصادي مثل كلينت إيستوود، ميزانياته محدودة وأفلامه مصنوعة بشكل عملي ومدروس، ولا تتضمن مشاهد زائدة أو حوارات مطولة.

رغم أن الفيلم يصلح فناً وموضوعاً للعرض على الشاشة الفضية إلا أن توزيعه على قناة ستريمنغ تابعة للشركة المنتجة يدل على أن هذه المنصة ليست مثل أسواق فيديو ما قبل عصر منصات البث التدفقي، ويدل كذلك على الحسابات التجارية الجديدة التي تفرضها هذه الحقبة الرقمية.

يضع سودربيرغ وكاتب النص إد سولومون قصتهما في سياق تنافس شركات السيارات. في إشارة مباشرة لفيلم noir الكلاسيكي «الرجل الثالث» 1949 بطولة أورسون ويلز، يبدأ الفيلم بتجنيد جونز (بريندان فريزر) ثلاثي اللصوص كورت (دون شيدل) الذي خرج للتو من السجن وبحاجة إلى عملية واحدة يكسب منها مالاً ويغادر المدينة، خصوصاً أنه ملاحق من قبل عصابة واتكنز (بيل دوك).

الثاني رونالد (بنيسيو ديل تورو) الذي يقيم علاقة غير شرعية مع فانيسا (جوليا فوكس) زوجة فرانك كابيلي (راي لايوتا) زعيم عصابة. اختيار كورت ورونالد معاً ليس مصادفة وإنما لأنهما يعيشان الظروف نفسها وهي أنهما بحاجة إلى عملية واحدة تمكنهما من الهروب من ديترويت مدينة السيارات والانتقال إلى مكان آخر.

اللص الثالث هو قائد المجموعة ويُدعى تشارلي (كيران كلكين)، الذي يأخذ الفريق إلى منزل رجل ضعيف الشخصية اسمه مات (ديفيد هاربور ربما في أفضل دور له إطلاقاً). يحتجز الثلاثي زوجة مات (إيمي سميتز) وطفليه رهائن. أحد الطفلين يجسده نوح جوب ابن إيميلي بلنت في فيلم «مكان هادئ».

يجلس كورت ورونالد مع الرهائن ويرافق تشارلي مات إلى شركة السيارات حيث يعمل لسرقة ملف من خزانة في مكتب رئيسه في العمل. يعلم الثلاثي أن مات سيخضع لهم لأنهم يعلمون سره وهو علاقته غير الشرعية مع سكرتيرة رئيسه، والتي وقع في حبها واتفق معها على ترك عائلته والزواج منها.

بالطبع لأن الفيلم بأكمله إشارة مباشرة وواضحة وضوح الشمس إلى أفلام «نوار» (الجريمة) الخمسينات، فإن الثلاثي سيخفق في عملية البداية وسينتج عنها جريمة قتل تقع في بيت مات وستحدث خيانة وهناك إمكانية لحدوث مجزرة. ولو لم يحدث ذلك فهذا فيلم جريمة عادي ولن يكون إشارة مباشرة إلى حقبة الخمسينات الذهبية لأفلام الجريمة. ينفصل الثلاثي ويهرب كورت مع رونالد ومن حوارهما نعلم أنهما عملا لصالح واتكينز وكابيلي اللذين يسيطران على العالم السفلي لديترويت ويتحكمان في حياة البطلين. نص الكاتب سولومون مثال كلاسيكي للأخطاء المضاعفة والدوافع الخفية والنوايا الخبيثة التي دائماً تكون مصدر شرور قصص أفلام الجريمة في فترتها الذهبية أو الموجة الأولى 1941 - 1958.

يشعرك الفيلم بأنه سينتهي بالطريقة التي تتوقعها، لكنه يغير مساره ويتحول إلى شيء آخر. سودربيرغ وسولومون يصنعان قالب قصة أفلام «نوار» الخمسينات بشكل مبهر ويثير الإعجاب الشديد، خصوصاً للشخص الذي شاهد أفلام تلك الحقبة. عنوان الفيلم لا علاقة له بالمضمون وكان من الأفضل تسميته «الملف» أو «أجندة خبيثة» والثاني هو الأقرب لقصة الفيلم وأحداث النهاية التي تُعد مفاجأة. هذا الفيلم معقد وليس سهل الفهم خصوصاً في جزء الوسط بعد الساعة الأولى، وهذا ليس عيباً وإنما هو إشارة لأفلام تلك الحقبة التي كانت تتعقد في وسطها وأدوات التعقيد كانت كشف مفاجآت أو ظهور شخصيات تأخذ القصة لمناحٍ غير متوقعة. لا تحاول فهم كل شيء وإنما تابع مسار قصة كورت ورونالد اللذين بمجرد علمهما بوجود مؤامرة ضدهما سيستوليان على الملف ويحاولان الوصول إلى زعيم العصابة أو الشخص الذي دبر العملية لبيع الملف له، وهنا تحديداً تقع المفاجأة الكبرى.

النهاية ليست مفاجأة فحسب، بل مفاجأة ساخرة جداً وصادقة في الوقت نفسه، وتكشف كيف يتحكم الجشع والجريمة في الأغنياء بشكل يختلف عن المجرمين.

الفيلم من تصوير سودربيرغ نفسه تحت اسم مستعار هو بيتر أندروز، وكما ذكرنا فإن الرجل تجريبي فهو يصور ويخرج ويقطع أفلامه بنفسه في المونتاج باسم آخر مستعار لامرأة هو ماري آن برنارد!

هذا فيلم ممتاز وعالي الجودة فنياً ويستحق المشاهدة. الكثيرون يرون أن فيلم أوشنز 11 هو أفضل أفلام سودربيرغ، لكن نقول إن هذا الفيلم هو الأفضل في مسيرته السينمائية ومن الجميل مشاهدة صانع أفلام يعود لما يحسن فعله، ويصنع أفلاماً بشكل جديد يعكس رؤيته المحدثة لأصناف كلاسيكية من حقب ماضية.

• هذا الرجل كان تجريبياً في بداياته، ثم تقاعد ثلاثة أعوام وعاد تجريبياً بشكل جنوني أكثر من السابق إلى درجة تصويره فيلمين بجهاز «آي فون».

• ميزانياته محدودة وأفلامه مصنوعة بشكل عملي ومدروس، ولا تتضمن مشاهد زائدة أو حوارات مطولة.

للإطلاع على الموضوع بشكل كامل، يرجى الضغط على هذا الرابط.

تويتر