المرصد

نهاية الصحافة الحزبية

تصدّر خبر صغير منذ أيام الصفحات الأولى في الصحف المصرية، ومضمونه أن مجلس إدارة جريدة «الأهالي» قرر إيقافها، بعد أن تراكمت ديون طباعتها، ولم تعد «مؤسسة الأهرام» التي تطبعها دون أن تتقاضى حقوقها بوارد أن تطبعها دون تسديد الديون.

خبر إعلان صحيفة ورقية عن نهايتها لم يعد ــ من كثرة تكراره ــ خبراً تقريباً، فكبريات الصحف العالمية والعربية فعلت الشيء نفسه، «كريستيان ساينس مونيتور» نموذج الأولى، و«السفير» نموذج الثانية، لكن في حالة «الأهالي» فإن أهمية الخبر هي أنه يؤشر إلى نهاية حقبة خصبة وغنية في المشهد الصحافي في مصر، اسمه «الصحافة الحزبية».

الصحافة المصرية تكاد تكون ولدت حزبية، فـ«الطائف» و«التبكيت والتنكيت» كانتا قلب الحركة العرابية، و«المؤيد» و«اللواء» تذكران ما ذكر مصطفى كامل، وصحف الوفد واشتباكها مع صحف الاحتلال، وفي مقدمها «المقطم» هي المشهد الرئيس في صحافة الثلاثينات والأربعينات والخمسينات، بل إن مؤرخي الحركة الوطنية المصرية يسمون فترة طويلة عريضة من 1882 وإلى 1919 باسم «الحقبة الصحافية»، لأنه لم يكن هناك شيء يمكن فعله في مواجهة الاحتلال سوى «الورقة والقلم».

فيما يخص «الأهالي»، فإن للصحيفة وضعاً خاصاً، ربما يشابه جريدة «السفير» اللبنانية.

فقد كانت «الأهالي» هي الصحيفة التي وقفت تمثل وجهة النظر الأخرى في السبعينات من القرن الماضي في اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل، ثم انتقلت بعد ذلك إلى مواجهة التطبيع الشعبي معها، وهي التي انتصرت لـ«الثورة الفلسطينية»، ولفكرة «التضامن العربي»، في وقت علت فيه أصوات انعزالية في مصر، وقد دفعت ثمن مواقفها مصادرات شبه أسبوعية، حتى قيل عنها تفكهاً إنها «تصادر أكثر مما تصدر»، كما أنها الصحيفة التي تألق على صفحاتها كبار الكتاب والمفكرين والصحافيين على الساحتين المصرية والعربية.

والحق أن ما جرى مع «الأهالي» ليس بمعزل عما جرى مع كل الصحف الحزبية في مصر، فقد تعرضت للمصير نفسه معظم هذه الصحف، ربما باستثناء «الوفد»، بسبب التعثر الاقتصادي لها، ولم يبق منها سوى أشباح وهياكل وذكريات عن معارك، و900 صحافي مصري صنع الكثير منهم معارك لا تنسى، ويعيش الكثير منهم أيضاً ظروفاً صعبة، بعد أن فقد وظيفته وصحيفته وعالمه الذي أنفق فيه عمره.

لقد انتهت الصحافة الحزبية في مصر تقريباً، ولا نقول ماتت إكلينيكياً، ربما ارتكبت هي بعض الأخطاء التي تتمثل في أنها لم تستطع في حقبتها الجديدة، إثر ولادتها الثانية بعد 1976، أن تفصل بين «الحزبية السياسية» و«المهنية الصحافية»، ربما لم تستطع أن تفكر في اقتصادياتها الصحافية بشكل مستقل، ربما تركت نفسها نهباً للأهواء والصراعات، لكن في الوقت نفسه من حقها أن تعتب على المجتمع الذي احتضنته، وتبنت مشكلاته، وعبّرت عن صوته في شبابها، ألا يحتضنها في هرمها وعثرتها، وألا يقدم لها خيط ضوء تستعيد به بريقها.تعثر «الصحافة الحزبية» في مصر هو خصم من قوى الصحافة العربية الحية، ذاتياً وموضوعياً، فقد كانت بتكوينها الشعبي أكثر قدرة على التعبير عن فئات وقضايا قد لا تصل إلى الصحف الرسمية، وأكثر جرأة بحكم عدم رسميتها في تناول هذه القضايا، وأكثر قدرة على الالتحام بمحيطها العربي، كما أنها على المستوى الذاتي ضمت ورفدت الصحافة العربية بعشرات الصحافيين الأكفاء، ممن تربوا في براح أوسع، يعزز قدرات من يسعى منهم إلى المهنية.

تويتر