عن الأزمة المالية العالمية

باسل رفايعة

 

يومياً، تستغني الشركات حول العالم عن آلاف الموظفين، وتتلخص قصتهم بخبر صحافي صغير، يردّ الأسباب للأزمة المالية التي تعصف بالكون منذ شهور، ولم تجد ضحايا مناسبين سوى موظفين، لديهم عائلات وأطفال يذهبون إلى المدارس، وأحلام بسيطة، وباتوا فجأة أرقاماً في سوق بطالة واسعة ومتزايدة، تضيق فيها الحياة إلى حد العجز عن تدبير الطعام وأجرة المسكن والدواء، وخصوصاً في العالم الفقير، حيث تغيب شبكات الأمان الاجتماعي، وتقل الفرص في رعاية حكومية تكفل الحد الأدنى من العيش الكريم.

تنشر الصحف في الولايات المتحدة قصصاً بالغة الغرابة عن عائلات بأكملها تحولت إلى الفقر والعَوْز في أسابيع قليلة، بعدما فقد معيلوها وظائفهم، وعن فئات اجتماعية لا تشملها برامج الرعاية وقد وجدت نفسها تتنكر في ثياب ممزقة، أو تخترع عاهات من أجل التسول، واستعطاف المارة بمال للطعام والإيواء.

وفي العالم الثالث، تضاعف إيقاع الكارثة المقيمة أصلاً منذ عقود، فمن كان يتدبر معيشته براتب ضئيل، تبخّر فجأة تحت وطأة استجابة الشركات للأزمة، وأصبح متسولاً، أو باحثاً عن الفتات في صفائح النفايات، وأصبحت الدول الفقيرة تواجه معضلات اجتماعية قاسية، سيكون التعبير عنها في الشارع أشدّ قسوة في مقتبل الأيام، لا سيما إذا صدقت تنبؤات الخبراء عن استمرار الأزمة إلى ثلاثة أعوام مقبلة. ووسط ذلك ملايين المدفوعين من الجامعات والمؤسسات التعليمية إلى سوق يخيم عليها الجمود وانعدام الفرص.

الصورة أكثر سواداً وقدرة على إنتاج المفارقات أيضاً، فآلاف الموظفين الذين وجدوا أنفسهم في شهور قليلة عاطلين عن العمل هم أنفسهم كانوا السبب المباشر للأرباح الطائلة التي نعمت بها الشركات ومديروها الكبار ومساهموها على مدى السنوات الماضية، وهم أنفسهم الذين كان رؤساء مجالس الإدارة يتغنون بعرقهم وجهدهم وما بذلوه من تفانٍ أدى إلى تنامي الأرباح وتوسيع الأسواق، كل ذلك قبل أن يظهر الوجه المتوحش للرأسمالية، وقبل أن يقرر حملة الأسهم أن حصصهم السنوية تتقدم على أي اعتبار إنساني، وعلى أية قيمة أخلاقية!

هكذا تفرض الرأسمالية الحديثة منطقها وشروطها على البشر، وهي على يقين بأنها الوصفة الأخيرة للبشرية في «نهاية التاريخ»، فهي روح الدولة وتعبيرها الوحيد، وليس بالإمكان العودة عنها بعد أن أصبحت الشركات العملاقة دولاً راسخة، تتلاعب بالمصائر الإنسانية، وتحرك الحروب من أجل أسواقها إلى أن أصبحت قوة لا ند لها.

الأمور تبدو على هذا النحو في الأشهر الأولى لاستحقاقات الأزمة المالية العالمية التي يدفع الفقراء أكثر من غيرهم ثمنها أذىً ومعاناة مباشرة، تتعلق بالطعام والمسكن والمستقبل، لكنها لن تسير كما تقتضي مصالح الرأسمالية في ما تبقى من شهور أو سنوات من الأزمة، فالعالم الفقير سيتكيّف مع الجوع والخسارات، والكساد سيرتدّ قاسياً على الشركات التي استغنت عن آلتها التشغيلية من البشر، فهي في صورة أخرى في حاجة لهؤلاء، وفي حاجة لأسواق وبشر واحتياجات، ولن يجد الرأسماليون الجدد بديلاً من الرضوخ لمصالحهم التي تعني أول ما تعني العودة إلى المعايير الإنسانية في السوق، وحراستها من الفقر، من أجل أن تبقى الأسهم والأرصدة وأعلام الشركات وتنافسيتها، غير أن الأقوياء من الذين تكيفوا وعبروا أكثر مراحل الأزمة شراسة هم من سيقررون منطقاً جديداً، ولمصلحتهم، عندئذٍ.

 

baselraf@gmail.com  

تويتر