تحدّوا الرصاص والغاز المسيل للدموع

الاحتجاجات السلمية تثبت لإسرائيل أنـه ليس لدى الفلسطينيين ما يخسرونـه

صورة

في غزة هناك عدد كبير من الشبان العاطلين عن العمل، والفاقدين للأمل، والذين ليس لديهم ما يخسرونه إذا حدثت أي كارثة. أحد سكان غزة، الذي اضطرت عائلته إلى الرحيل عن فلسطين التاريخية إلى القطاع عام 1948، وهو عاطف أبوسيف، يقول متحدثاً عن مسيرات العودة ويوم الأرض: «ما ستتمخض عنه الأيام المقبلة يعتمد على الاستجابة السياسية ليس فقط لإسرائيل، بل للمجتمع الدولي»، ويعتقد أن المجتمع الدولي فشل في أن يقول «لا» لإسرائيل، ويسترسل «وما لم تكن هناك نهاية سياسية لذلك، فقد يتحول الوضع إلى كارثة، ليس لدى هؤلاء الفتية فاقدي الأمل أي شيء يخسرونه فيها.. ولا أحد يعرف النهاية».

• لم يكن المتظاهرون ليشاركوا في هذه الاحتجاجات لولا اليأس الذي يشعرون به خلال 11 عاماً تخللتها ثلاث حروب دموية، وإغلاق للحدود من جهة مصر وإسرائيل، وحصار إسرائيلي أدى إلى انهيار اقتصاد غزة.

• يتلقى المصابون العلاج من جروح ناجمة عن طلقات نارية، أو بسبب تعرّضهم لقنابل الغاز المسيلة للدموع، واستنشاق الغاز، ما يعكس ظاهرة تاريخية هي أن هذه الاحتجاجات تعتبر أول تظاهرات جماهيرية غير سلمية في غزة منذ الانتفاضة الأولى قبل أكثر من 30 عاماً.

حكاية زقوت

كان من المفترض أن يكون هاشم زقوت في المستشفى المحلي قبل يوم واحد من مسيرة العودة، حيث يعمل متطوعاً هناك، وكان يأمل في أن يمهد له عمله هذا الطريق للحصول على وظيفة بدوام كامل مدفوعة الأجر. وبدلاً من ذلك، أصبح هذا الشاب، البالغ من العمر 24 عاماً، طريح الفراش في غرفة الطوارئ، في مستشفى آخر شمال غزة، بعد أن تعرض لإطلاق نار في الركبة اليسرى بسبب إلقائه «الحجارة الصغيرة» على القوات الإسرائيلية عبر الحدود، شرق مخيم جباليا للاجئين، حيث يعيش.

أصيب زقوت على بعد 10 أمتار من السياج الحدودي، برصاص قناص خلال الاحتجاجات الجماهيرية الأخيرة عند الحدود بين إسرائيل وغزة إحياءً لـ«مسيرة العودة الكبرى»، وهي سلسلة من الاحتجاجات التي من المقرر أن تستمر حتى 15 مايو، في الذكرى السنوية السبعين لـ«النكبة»، عندما أُجبر 700 ألف لاجئ فلسطيني على ترك منازلهم في حرب عام 1948.

لم يكن خائفاً

ويصرّ زقّوت على أنه «لم يكن خائفاً»، وأنه شارك في الاحتجاجات من أجل «العودة إلى أرضه»، وهو المنزل الذي أصبح الآن في إسرائيل، والذي اضطر أجداده إلى تركه في عام 1948. لكنه يقول ايضاً إنه لم يكن لينضم إلى تظاهرة يوم الجمعة، لو كانت لديه وظيفة بدوام كامل، فهو يعتمد على «مصروفه الشخصي» من والده، الشرطي السابق في السلطة الفلسطينية التي تقودها «فتح»، ولكن تم خفض عدد رجال الشرطة إلى النصف، كجزء من العقوبات التي فرضها الرئيس محمود عباس على غزة، للضغط على قادة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) الذين يديرون القطاع.

وكرجل عاطل عن العمل، يعتبر زقوت نموذجاً للعديد من آلاف الفلسطينيين، الذين أصيبوا خلال الاحتجاجات الأخيرة. وكان محظوظاً ألا يكون أحد عشرات القتلى، الذين كان من بينهم صبية ما دون سن 15 عاماً، وصحافي فيديو فلسطيني غير سياسي، هو ياسر مرتجى، الذي قُتل بالرصاص رغم أنه كان يرتدي سترة تظهر أنه صحافي.

ويتلقى المصابون العلاج من جروح ناجمة عن طلقات نارية، أو بسبب تعرضهم لقنابل الغاز المسيلة للدموع، واستنشاق الغاز، ما يعكس ظاهرة تاريخية هي أن هذه الاحتجاجات تعتبر أول تظاهرات جماهيرية سلمية في غزة منذ الانتفاضة الأولى قبل أكثر من 30 عاماً، وهي تلك الانتفاضة التي تمخضت في الوقت المناسب عن اتفاق أوسلو عام 1993 بين رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل، إسحق رابين، والرئيس الفلسطيني السابق ياسر عرفات، والآمال الكبيرة التي راجت في ذلك الوقت لإنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.

كرنفال ودماء

المشهد الذي بدا يتكشف كل يوم جمعة تحت أشعة الشمس الدافئة في المناطق الحدودية، حيث يتجمع كل مرة 20 ألف فلسطيني على أقل تقدير، يمثل كرنفالاً احتفالياً ومشهداً دامياً عندما يختلط صوت الموسيقى بصرخات بائعي الطعام - بعضهم يرتدي أقنعة - الذين يبيعون كل شيء من بذور الترمس والعصائر إلى شطائر الكبد. اختلطت أصوات الاحتفالية مع صفير صوت الرصاص وقنابل الغاز المسيل للدموع، التي ظلت تطلقها القوات الإسرائيلية على الشباب وهم يلقون الحجارة والقنابل الحارقة. وتشكلت سحب بيضاء كثيفة من الغاز المسيل للدموع، تتصاعد باتجاه السماء، فيما سعى شبان فلسطينيون إلى حجب رؤية القوات الإسرائيلية بواسطة حرق عشرات الإطارات. وانطلقت صفارات الإنذار بعدما تجمعت سيارات إسعاف على مسافة 150 متراً أو نحو ذلك من الحدود، ونُقل المصابون إلى مستشفيات وعيادات ميدانية خارج منطقة الخطر.

تصميم وإصرار

في الليلة السابقة لهذه الأحداث، بدا الأمر وكأن العائلات ستبقى بمنأى عن أي احتجاجات، بعد وفاة 17 فلسطينياً في تظاهرة خرجت في 30 مارس، وهو أعلى رقم لقتلى في تظاهرة في يوم واحد منذ الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة عام 2014. ولم يكن هناك سوى عدد قليل من الحافلات التي نقلت المتظاهرين إلى الحدود، كما كان عليه الأمر في الأسبوع السابق عندما خرجت احتجاجات «يوم الأرض»، احياءً لمقتل ستة من العرب داخل إسرائيل كانوا يحتجون على استيلاء الحكومة على الأراضي الزراعية في عام 1976.

عند حدود حي الزيتون، جنوب شرق مدينة غزة، بالقرب من معبر كارني للبضائع المغلق منذ فترة طويلة، كانت قنابل الغاز المسيل للدموع تسقط من وقت لآخر على مسافة تزيد على 300 متر من السياج. وفي وقت متأخر ما بعد الظهر في شمال القطاع، في منطقة أبوصفية، في جباليا، على بعد 700 متر من الحدود، انضمت للمسيرة عائلات كانت تتنزه، من بينهم الكهول والأطفال الصغار، وظلوا يسيرون على الأقدام أو في السيارات يشاهدون الأحداث تتكشف أمامهم على بعد آمن من قمة منحدر صغير.

وقد خفض الجيش الإسرائيلي استخدام النيران الحية مقارنة بالأسبوع الأول، إلا أن المزيد من الرصاص الحي ظل ينطلق مع تضخم الأعداد قرب الحدود. وحثت منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية «بتسيلم» الجنود على عدم إطاعة الأوامر بإطلاق النار على مدنيين غير مسلحين. وقال ثلاثة من كبار الأكاديميين إن إطلاق النار على متظاهرين غير مسلحين غير قانوني في القانون الدولي.

استلهام أساليب الكفاح السلمي

وتدّعي إسرائيل مراراً وتكراراً أن ما تصفه بـ«أعمال الشغب» يجري بتوجيه من حركة «حماس». ومن المؤكد أن الاحتجاجات قد حظيت بتأييد «حماس» النشط، حيث وعدت بدفع تعويضات تصل إلى 3000 دولار لأُسر الذين قتلوا في الاحتجاجات. كما قدمت «حماس» الدعم اللوجستي الحاسم، من تأجير الأراضي الزراعية لإقامة مدن الخيام الصغيرة، بما في ذلك مناطق لعب الأطفال والحمامات، في كل نقطة احتجاج، وتوفير رجال الشرطة الذين يشرفون على وقوف السيارات في المواقع.

لقد منحت «مسيرة العودة العظيمة» لـ«حماس»، التي لا أصدقاء لها على الإطلاق في المنطقة، زخماً تحتاجه بشدة. لكن هناك وجهاً آخر لهذه القصة، فحتى لو وجدت المسيرة الدعم من قبل «حماس»، فإن الفكرة الأصلية للاحتجاج غير المسلح - المستلهمة من الزعيم الهندي، المهاتما غاندي، وداعية الحقوق الأميركي الأسود، مارتن لوثر كينغ - نبعت من إرادة مجموعة من الشباب الفلسطينيين المفكرين وطلاب الدراسات العليا، وتجد التأييد من جميع الفصائل، ليس فقط «حماس»، من ضمنها منافستها اللدود «فتح».

(أبوسيف) هو أحد المؤيدين الأكثر حماسة لهذه الاحتجاجات، وهو يعتبر أفضل مؤرخ حي في غزة. يقول (أبوسيف) إن العديد من الأفكار حول ما سمّاه «حرب اللاعنف» كانت مدفوعة «من قبل الشباب على الهاشتاغ، والمواقع الإلكترونية». ويضيف: «هؤلاء الأشخاص كانوا في طريقهم إلى الحدود، لكنهم لم يحاولوا اختراقها، هذه تظاهرة سلمية كي تدرك إسرائيل أنها لن تنعم بأي سلام، ليس بعد 70 عاماً وإنما بعد 100 سنة أخرى، إن لم تمنحنا حقوقنا التي يكفلها لنا القانون الدولي»، ويخاطب إسرائيل قائلاً: «نحن نعلم أننا لا نستطيع هزيمتك، أنت من أقوى الدول في العالم.. لكننا نعرف أن إرادتنا قوية، إذا كانت إسرائيل تريد الانتماء إلى هذه المنطقة، فعليها أن تصنع السلام مع الفلسطينيين».

اليأس

لم يكن المتظاهرون ليشاركوا في هذه الاحتجاجات لولا اليأس الذي يشعرون به خلال 11 عاماً تخللتها ثلاث حروب دموية، وإغلاق للحدود من جهة مصر وإسرائيل، وحصار إسرائيلي أدى إلى انهيار اقتصاد غزة. وهناك شعور باليأس بشأن مياه الشرب غير الصالحة، وأربع ساعات فقط من دوام التيار الكهربائي، ونقص الأدوية، ومعدل البطالة المتزايد بلا هوادة بين واحد من أكثر الشعوب تعليماً في العالم العربي، إذ إن أكثر من 60٪ من الشباب دون سن الـ25 عاطلون عن العمل.

إلا أن هذه التظاهرات اجتذبت أيضاً بعضاً من أفراد الطبقة الوسطى الأكثر ازدهاراً. ويقول مستشار تقنية المعلومات، جلال مرزوق (40 عاماً)، إنه بصفته أباً لأربعة أطفال، وزوجة تغضب من مشاركته، فإنه شارك ولكن لم يكن يقترب كثيراً من الحدود، ويقول إن العديد من مواطنيه الشباب «ليس لديهم أي مستقبل وهم يائسون تماماً، وأنا لدي شيء أخسره، لكن ليس لديهم ما يخسرونه».

تويتر