«خطوط حمراء» تقف في وجه إيران

الصراع يحتدم على «طالبان» بين واشنطن وطهران

صورة

رغم أن اتجاهات عدة اعتبرت أن اتخاذ الولايات المتحدة الأميركية خطوات إجرائية لتفعيل استراتيجية الانسحاب من أفغانستان، يتوافق مع مصالح إيران ومحاولاتها تعزيز نفوذها داخل الأخيرة، فإن ذلك قد لا يكشف الملامح الكاملة للمشهد السياسي والأمني في كابول، وقراءة الأطراف الإقليمية والدولية لها. صحيح أن طهران دعت أكثر من مرة إلى انسحاب القوات الأجنبية من أفغانستان، وعلى رأسها القوات الأميركية، إلا أن ذلك لا ينفي في الوقت ذاته أن أي خطوة من هذا القبيل قد تثير مخاوفها، خصوصاً في الوقت الذي تتصاعد فيه الضغوط المفروضة عليها، وتتزايد احتمالات اللجوء إلى خيارات أخرى في التعامل معها، غير المفاوضات والعقوبات، بما فيها الخيار العسكري.

ومن هنا، لا يبدو أن إيران ستقف صامتة أمام تفعيل أي اتفاق محتمل بين الولايات المتحدة الأميركية وحركة «طالبان»، خلال المفاوضات التي تجرى بين الطرفين، حيث إنها ستحاول التحرك من أجل احتواء أي تداعيات محتملة قد يفرضها هذا الاتفاق على مصالحها ورؤيتها للترتيبات السياسية والأمنية التي يجرى العمل على صياغتها في أفغانستان خلال المرحلة المقبلة.

اعتبارات عدة

لم تُبد إيران رد فعل إيجابياً إزاء المفاوضات التي تجرى بين واشنطن و«طالبان»، والتي تتزامن مع محادثات انخرطت فيها مع الأخيرة في طهران، تسببت في استياء الحكومة الأفغانية. ويمكن القول إن هذه المفاوضات وما يمكن أن يتمخض عنها من نتائج قد تفرض تأثيرات على مصالح إيران من زوايا رئيسة خمس تتمثل في:

1- عرقلة الترتيبات الأمنية

سيضع هذا الاتفاق المحتمل عقبات عدة أمام المحاولات التي تبذلها إيران للمشاركة في صياغة الترتيبات السياسية والأمنية في أفغانستان خلال المرحلة المقبلة، إذ لا تستبعد طهران أن تقوم بإعادة قسم من ميليشيا «فاطميون» التي تقاتل في سورية إلى جانب نظام الأسد إلى أفغانستان من جديد، بعد تغير توازنات القوى في سورية لمصلحة حليفها.

وهنا، فإن «طالبان» قد ترفض هذه المحاولات، خصوصاً أن أحد أهم عناوين مفاوضاتها مع الإدارة الأميركية يتعلق بالعمل على منع انتقال التنظيمات الإرهابية إلى أفغانستان من جديد، أو التحالف معها على غرار ما كان قائماً مع تنظيم «القاعدة»، وهو التحالف الذي تسبب في تعرض أفغانستان للغزو الأميركي وسقوط نظام «طالبان» بعد وقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001.

ومن ثم، فإن واشنطن و«طالبان» ستعتبران أن هذه التنظيمات لن تقتصر على «القاعدة» و«داعش»، وإنما ستمتد، على الأرجح، إلى الميليشيات الموالية لإيران، على نحو سيُعرِّض الأخيرة لضغوط قوية حتى قبل انتقالها فعلاً إلى داخل أفغانستان.

ويبدو أن تأمين عودة «فاطميون» تحديداً كان أحد الأهداف الرئيسة التي سعت إيران إلى تحقيقها عبر تغيير سياستها إزاء «طالبان» التي تحولت، بالنسبة لها، من خصم إقليمي إلى طرف يمكن الانخراط معه في تفاهمات سياسية وأمنية، بعيداً عن التنسيق مع الحكومة الأفغانية.

2- تعزيز خيار صعود «طالبان» إلى السلطة

ربما تعتبر طهران أن أي اتفاق محتمل بين واشنطن و«طالبان» يمكن أن يعزز من احتمالات وصول الأخيرة إلى السلطة من جديد بأي شكل، على نحو لا يمكن أن تقبل به الأولى بسهولة، فرغم أنها غيرت سياستها إزاء «طالبان»، فإن ذلك لا يعني أنها في وارد تدعيم محاولاتها الصعود إلى سدة الحكم مرة أخرى.

وبمعنى أدق فإن إيران ترغب في تأسيس قنوات تواصل مع «طالبان» باعتبارها طرفاً سياسياً وليس شريكاً في الحكم، ويعود ذلك بالطبع إلى أن الاحتمال الأخير يمكن أن يؤدي إلى صعود الخلافات الكبيرة بين الطرفين على الساحة من جديد، وهى الخلافات التي توارت نسبياً عقب خروج «طالبان» من السلطة، ومحاولات طهران التواصل معها لممارسة ضغوط على الوجود الأميركي في أفغانستان، وقد كادت هذه الخلافات تؤدي إلى نشوب مواجهة عسكرية بين الطرفين عام 1998، قبل أن تتراجع إيران عنها لتجنب عواقبها الوخيمة.

3- إضعاف حضور إيران

لا تبدي طهران ارتياحاً للدعم الواضح الذي تقدمه كابول للمفاوضات التي تجرى بين الولايات المتحدة الأميركية و«طالبان»، خصوصاً أنه توازى مع الانتقادات التي وجهتها كابول إلى المحادثات التي أجرتها طهران مع وفد من الحركة في الفترة الماضية،إذ إن هذا التباين الملحوظ في موقف كابول إزاء المقاربة الإيرانية والأميركية للعلاقات مع «طالبان» يوجه رسائل لا تتوافق مع مصالح إيران، أهمها أن الدور الذي تقوم به الأخيرة يعرقل الجهود التي تبذل للوصول إلى تسوية سياسية للأزمة الأفغانية ويسهم في تفاقم الاضطرابات الأمنية والسياسية على نحو ما هو قائم في الأزمات الإقليمية الأخرى على غرار الأزمتين السورية واليمنية.

4- حماية المصالح الأميركية

ترى طهران أن هذه المفاوضات يمكن أن تمثل دفعة لتفعيل مساعي الولايات المتحدة الأميركية للانسحاب من أفغانستان على نحو يمكن أن يسهم في إبعاد مصالح أميركية حيوية عن بؤر الضغط الإيرانية في أفغانستان. وبمعنى أدق يمكن القول إن إيران دائماً ما كانت ترى أن الوجود العسكري الأميركي في المناطق المحيطة بها يمثل سلاحاً ذا حدين، إذ إنه يسهم في إحكام الحصار حولها بما يعني تهديد أمنها بصفة مستمرة، لكنه في الوقت نفسه يمنح فرصة لطهران للاحتفاظ بالقدرة على استهداف مصالح أميركية مهمة، وهي قدرة قد تستند إليها في لحظة ما، لاسيما في حالة ما إذا نشبت مواجهة عسكرية بين الطرفين، أو صعَّدت الولايات المتحدة الأميركية من حدة الضغوط التي تفرضها عليها.

ورغم أن احتمال نشوب هذه المواجهة قد يبدو ضعيفاً، فإن طهران لم تعد تستبعده، في ظل إصرار الإدارة الأميركية على كبح طموحاتها على المستويين الإقليمي والنووي، حيث بدأت في تبني آلية العقوبات الاقتصادية، لكنها قد تفكر في خيارات أخرى في حالة ما إذا لم تحقق تلك الآلية نتائج بارزة.

فضلاً عن ذلك، فإن إيران دائماً ما كانت ترى أن أي انسحاب أميركي جدي من أفغانستان لا يمكن أن يتم إلا بالتنسيق معها، بما يعني أنها كانت تتوقع دائماً أن تقوم واشنطن بفتح قنوات تواصل معها لتأمين انسحابها من أفغانستان على نحو كانت تحاول أن تستغله لمساومة واشنطن أو تقليص الضغوط التي تمارسها ضدها، أو إقناعها بضرورة تغيير النهج الذي تتبعه إزاءها.

وهنا، فإن إيران قد ترى أن اتجاه واشنطن إلى تفضيل الحوار مع «طالبان» قد يقلص من احتمالات حدوث هذا السيناريو على نحو يضعف من أهمية «الورقة» الأفغانية التي تحاول استغلالها في مواجهة إدارة الرئيس ترامب.

5- توسيع خيارات «طالبان»

يبدو أن إجراء مفاوضات بين واشنطن و«طالبان» جاء في وقت غير مواتٍ بالنسبة لطهران، إذ إن الأخيرة كانت تُعوِّل على أن الحركة الأفغانية لا تمتلك خيارات عدة على المستويين الإقليمي والدولي، في ظل إصرارها على تهديد الاستقرار السياسي والأمني داخل أفغانستان عبر تنفيذ عمليات إرهابية، بشكل كان يمكن أن يعزز موقع طهران وقدرتها على وضع شروط لمواصلة التقارب مع الحركة.

لكن هذا السيناريو تراجع بشكل ملحوظ بعد انخراط الحركة في مفاوضات مع واشنطن على نحو يمكن أن يسهم في توسيع هامش الخيارات المتاحة أمام «طالبان»، وربما يعزز قدرتها هي على وضع شروط لتحسين علاقاتها مع طهران.


عرقلة الاتفاق

إيران قد تتحرك من أجل عرقلة تفعيل أي اتفاق محتمل بين الولايات المتحدة الأميركية و«طالبان» خلال المرحلة المقبلة، خصوصاً أنها ترى أن هذا الاتفاق يمثل محاولة جديدة من جانب واشنطن لتكريس عزلتها الإقليمية وكبح تدخلاتها في الأزمات المختلفة في منطقة الشرق الأوسط. وبمعنى أدق فإن إيران ترى أنها الطرف الرئيس المعني بالنتائج المحتملة التي قد تسفر عنها تلك المفاوضات، وما يمكن أن تفرضه من معطيات جديدة على الأرض.

إيران لن تقف صامتة أمام تفعيل أي اتفاق محتمل بين الولايات المتحدة الأميركية وحركة «طالبان»، خلال المفاوضات التي تجرى بين الطرفين، إذ ستحاول التحرك لاحتواء أي تداعيات محتملة يفرضها هذا الاتفاق على مصالحها.

رغم أن احتمال نشوب مواجهة بين واشنطن وطهران قد يبدو ضعيفاً، فإن إيران لم تعد تستبعده في ظل إصرار الإدارة الأميركية على كبح طموحاتها على المستويين الإقليمي والنووي.

تويتر