أبواب

حيلة ضوئية

علي العامري

منذ الظل الأول للإنسان على الأرض التي كانت بمثابة مرآة ترابية، ومنذ أن نظر الإنسان إلى صورته المنعكسة على مياه النبع، ومنذ أن صرخ «نرسيس» حين دهمته صورته في الماء، وأصابه الهيام بها، ومنذ رسم الإنسان على جدران الكهوف الأولى، ومنذ أول صورة مطبوعة، وحتى الآن، لانزال نلتقط الصور في حالاتنا المختلفة، لنا وللآخرين ولكل ما حولنا. ولم يسلم الفضاء أيضاً من ومضة آلات التصوير. وكانت صورة مرور محطة الفضاء الدولية أمام قرص الشمس، قبل أيام، فرصة لجمهور من الكبار والأطفال، لرصد تلك الظاهرة في سماء الإمارات، والتقاط صور لعبور تلك المحطة الفضائية.

منذ البدء، لم تتوقف أعيننا عن التقاط ضوء الصور، ولم تتوقف آلة التصوير عن تسجيل لحظات، ما إن تلتقطها الكاميرا حتى تغدو تلك اللقطة من الماضي، وجزءاً من سيرة صورنا وحياتنا وذكرياتنا.

ما الذي يدفعنا إلى التقاط الصور؟ سؤال يبدو بسيطاً، لكنني أظن أنه مركب. هل من الضروري تلك الومضة في وجوه البشر والأشياء واللحظات؟ هل التصوير رغبة كامنة في أرواحنا؟ وما الذي يرمي إليه توثيق تلك اللحظات والمناسبات والمواقف وحتى الأحداث المؤلمة؟

ليست الصورة التي أقصدها هنا، صورة صحافية، بل أقصد الصور العادية، تلك الصور الأليفة التي ترتبط بنا، ونرتبط بها، تلك الصور التي أصبحت جزءاً من سيرتنا في الحياة.

هل هناك معنى كامن في التصوير، كما الحال في الفن التشكيلي؟ وكيف ستكون حياتنا لو لم يخترع الإنسان «آلة الضوء»؟ هل تضيف الصور معنى غامضاً أو سراً إلى البشر؟

ربما، كل ذلك يمثل إشارة إلى علاقتنا بالزمن والموت والحلم معاً، إذ إننا نعي تماماً أن عمر الإنسان محدود، لذلك ربما لجأنا إلى «حيلة ضوئية» تمثلت في الصورة، لمضاعفة زمننا، فمن خلال الصور نتعرف إلى تجارب إنسانية وأساليب عيش، ومن خلالها يتمدد العمر في المسافة المكثفة ما بين المهد واللحد، كما أننا عن طريق الصورة أيضاً نعايش حياة آخرين في بقاع الأرض، ونعايش أيضاً أزمنة لم نشهدها مباشرة، وعن طريق الصورة نعود إلى الماضي، إلى طفولتنا، أو طفولة أجداد لنا، فالصورة قادرة على مزج الزمن وتقطيعه، مثلما يحدث في السينما، إذ إنها تروي قصصاً وتكشف عن طفولة الكلام والأشياء.

في لحظة واحدة، عندما نقف أمام مجموعة من الصور، فإننا نكون أمام أزمنة وحالات متعددة.

هكذا، أوجد الإنسان الكاميرا لتعينه على التذكر، ومعايشة الأزمنة، وتمديد العمر، وتعويض الوقت، إذ إن كل واحد منا قال يوماً ما إنه يحتاج إلى أزمنة عدة حتى يحس بأنه عاش تفاصيل الحياة، وقرأ وكتب وسافر وتأمل وابتسم وبكى ونام أيضاً.

بهذه الحال، تبدو الكاميرا «حيلة زمنية» اخترعها الإنسان ليحقق رغبة، حلم بها «جلجامش» وتتمثل في التقاط زهرة الخلود، لكننا الآن وعبر آلات التصوير نلتقط ضوء أرواحنا الهارب في براري الزمن.

alilameri@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر