عن تجربة المخرج اليوناني سبيرو ستاثولوبولس

الدير والقنبلة وفيلم اللـقطة الواحدة

صورة

تبدأ الحكاية من دير يقع على جبلين صخريين شاهقي الارتفاع، قمة الجبل الأول يحتلها القسم المخصص للرهبان، والثانية للراهبات، وكلاهما منحوتان في صخر الجبلين، ولا يصل بينهما أي جسر أو معبر، سوى ما يمكن أن يخرج علينا من خيال الراهب المتيم وهو يخاطب الراهبة في قمة الجبل الآخر بواسطة مرآة تنعكس عليها أشعة الشمس، حينها فقط سيحول شعرها الذي يتوق لأن يراه إلى حبل يمتد بين الجبلين، ولنرى ذلك مجسداً بواسطة«الأنيماشن».

يلخص ما تقدم فيلم المخرج اليوناني سبيرو ستاثولوبولس Meteora «ميتورا» ،2012 ويمكن اعتباره أيضاً معبراً للدخول إلى عالم هذا المخرج وهو في خطواته الأولى، وليس «ميتورا» إلا فيلمه الثاني الذي وقعت عليه في الدور 62 من مهرجان برلين السينمائي، وقد سبقه بفيلم واحد عنوانه «بي في سي ــ1» ،2007 وليكون هذا الفيلم لقية لا يقل وقعها وأثرها على مشاهدتي «ميتورا»، ولتكون الكتابة عن هذين الفيلمين بمثابة تتبع لما يختبره هذا المخرج في فيلميه وما يمكن أن يقدمه مستقبلاً، على شيء من الرهان عليه طالما أن يبحث عن مضامين أفلامه ضمن الأشكال التي يقترحها. في تتبع «ستاثولوبولس» ما يغري بالكتابة من دون علامات ترقيم، لكن ها هي فاصلة، وعلي أن أتبعها بأخرى، لئلا أصير ليوبولد بلوم في رواية جيمس جويس «عوليس» ومنولوج بلوم يحتل آخر 60 صفحة من الرواية دون علامة ترقيم واحدة، وعلى شيء على ارتباط بـ «بي. في. سي - 1» المصور بلقطة واحدة متواصلة دون قطع ولمدة 81 دقيقة، ولمحاكاة ذلك أدبياً أو على الورق أسعى للتحول إلى بلوم وهو يبدأ مونولوجه بـ «نعم لأنه لم يفعل شيئاً مثل هذا من قبل كأن يطلب أن يقدم إليه الفطور في السرير مع بيضتين».

«ميتورا» مقاربة تاريخية

يعود التاريخ مع هذا الدير إلى القرن التاسع الميلادي، حيث أقدمت مجموعة من الرهبان على استيطان الجبال الصخرية وصنع تجاويف فيها لإقامتهم بعزلة بعيدا عن البشر، سرعان ما تحولت إلى مجموعة متصلة من الغرف، حيث أصبح الرهبان يعيشون في عزلة كل في غرفته، ولا يلتقون إلا في قداس يوم الأحد، ومع سقوط الامبراطورية البيزنطية واحتلال اليونان من قبل العثمانيين، شهدت «ميتورا» لجوء عدد كبير من الرهبان إليها، هرباً من بطش العثمانيين، وهكذا توسع الدير وازداد عدد الرهبان، ومازال إلى الآن ملجأ عدد منهم.

بما أنني كائن ورقي سأقول عن فيلم «بي. في. سي - 1»، إنه فيلم بلا علامات ترقيم، كما لو أن المونتاج يضع تلك العلامات للفيلم حين تقطع لقطة ونمضي إلى أخرى، وأن علامات الترقيم تشبه التصورات الزمنية التي على المونتير أن يمضي خلفها ليكون للفيلم قلب نابض، فإن «كان الإخراج نظرة، فالمونتاج نبضة قلب» على رأي غودار.

لقطة واحدة

لا يحتاج فيلم «بي. في. سي - 1» إلى مونتاج، إنه لقطة واحدة، وبالتالي هنا سيكون أهم ما يعنيه ذلك ألا وهو تطابق زمن الفيلم مع الزمن الواقعي، فما نشاهده يستغرق من الزمن ما يستغرقه في الواقع تماماً، إذا لا حاجة لأن يتم صنع واقع جديد بإضافة لقطة إلى لقطة، كما أن الفيلم يروي قصة درامية تمتلك بداية ووسط ونهاية، وهي تصاعدية بامتياز، ولا تمنحنا الوقت لالتقاط أنفاسنا طالما أن الشكل الذي تروى فيه قصة الفيلم متصل بهزيمة أعتى عدو للسرد السينمائي ألا وهو الزمن، والقول إن الفيلم الذي تجري أحداثه في كولومبيا مأخوذ عن قصة حقيقية، لن يغير شيئاً من أن المشاهد يعيش القصة بأفضل ما يمكن للوسيط السينمائي أن يقدمه عليها، وتحقيق أثر يشابه قطار الأخوين لوميير والناس تتدافع من أمام الشاشة التي يمضي فيها قطار قادم نحوهم، وكل ذلك في لقطة واحدة لا تتخطى الدقيقة، لكنه زمن واقعي أيضاً.

هيتشكوك كان أول من صوّر فيلماً بلقطة واحدة، وكان له أن يقدم عام 1948 Rope «حبل»، وقد كان أول أفلامه الملونة، لكن اللقطة الواحدة كانت تتوقف مع تبديل شريط الكاميرا الذي لا يصور أكثر من 10 دقائق في حينها، ما استدعى من هيتشكوك حيلة تمثلت بمرور إحدى الشخصيات أمام الكاميرا بحيث تتحول الشاشة إلى السواد والقيام بتبديل الشريط في هذه الأثناء، وبالتالي فهو فيلم بلقطة واحدة مأخوذة 10 مرات هي مرات تغيير الشريط. هذا يقودنا بالتأكيد إلى فيلم الروسي ألكسندر سوخوروف Russian Aًْ «فلك روسي» 2002 المصور بلقطة واحدة تمتد لـ 90 دقيقة، وهو مصور في متحف «الهرميتاج» أو «قصر الشتاء» في سان بطرسبورغ، ومن خلال تنقل ارستقراطي فرنسي من القرن 19 في ذلك المتحف واستعادته لحقبات روسية تاريخية وشخصيات مفصلية فيها، ولعل التحدي الأكبر كان في السيطرة على المجاميع البشرية التي تتحرك أمام الكاميرا، خصوصاً في الحفلة التي تقام في الجزء الأخير من الفيلم، ولينجح سوخوروف في تحقيق ذلك في المحاولة الثالثة، كما لأقول عند مشاهدتي الفيلم، ها قد أنجز العمل، وأصبح فيلم اللقطة الواحدة منجزاً، ولعل ذلك ليس بالأمر القليل أبداً، لكن كان الأمر بحاجة لتتبع ما يرويه الفيلم الذي سيبدو منهكاً لمن ليس على اتصال بالتاريخ الروسي، الذي تجري استعادته كما لو أننا حيال فعل للتداعي التاريخي وعلى شيء من الشذرات التي يمليها موقع التصوير، متبنياً في الوقت نفسه ما يقول انطونيوني «الخيال البصري يتحرك في فراغ ما لم يكن مرتبطاً بقصة».

خارجي

مع هيتشكوك ومن ثم سوخوروف ما الذي قدمه ستاثولوبولس في «بي. في. سي - 1»؟ والإجابة تكمن في أن الفيلم مصور خارجياً في 90٪ منه، وهو يروي قصة درامية لها أن تتضح من العنوان الذي يعود إلى نوع من الأنابيب التي تستعمل في تمديدات الكهرباء. فالفيلم يبدأ من سيارة تقل خمسة أشخاص، والكاميرا تركز على حقيبة في حضن أحدهم، ومن ثم سرعان ما سنقع عليهم وهم يقتحمون مزرعة، ويقومون بتقيد أفراد الأسرة التي تملكها، ومن ثم وضع قنبلة في رقبة الأم، التي تشكل طوقاً حول رقبتها من الأنابيب سابقة الذكر، ومن ثم يغادرون ويتركون شريط كاسيت يقول لهم ألا يتصلوا بالشرطة لأنهم سيفجرونها بواسطة جهاز تحكم من بعد ما لم يحضروا لهم المبلغ المطلوب. هكذا يبدأ الفيلم، والتوتر على أشده، وإن كان «الطول الدقيق للمشهد هو الذي يخلق قيمته العاطفية»، فإننا نتكلم هنا عن فيلم لا يمكن الحديث فيه عن مشاهد، بل عن لقطة واحدة ستخلق قيمة عاطفية تأخذ كامل مدة الفيلم، ونحن نتابع المرأة وزوجها وابنتها يتوجهون إلى بلدة قريبة، بعد أن قام الابن بالاتصال بالشرطة، وبقيت البنت الصغرى والولد في البيت، وعليه فإننا سنمضي معهم وهم يتوجهون إلى تلك البلدة. في البداية سيستعينون بجارهم الذي يملك سيارة، لكنه يطردهم منها حين يعرف أن ما تحمله المرأة ليس إلا قنبلة، ومن ثم سيمضون إلى سكة القطار وهناك سيقوم ولدان بنقلهم بواسطة عربات يدفعونها على السكة، إلى أن يصلوا إلى البلدة حيث يكون خبير المتفجرات بانتظارهم، و يا له من خبير مسكين!

سيكون هذا الخبير برفقة زوجته وابنته، وحين يعاين القنبلة سيعود إلى سيارته ويخرج منها أشد المواد بدائية: شمعة، وعلبة كبريت، وكماشة صغيرة، وسلك، وسكين صغيرة يستخرجها من علبة تحتوي على فاكهة، إضافة إلى سطول لتجلس عليها المرأة ويجلس هو مقابلها، وهكذا سيمضي في تفكيك القنبلة شديدة التعقيد. أترك الأحداث والنهايات، والحوار المتقشف، وما يطرأ على تلك المرأة أثناء خضوعها لتفكيك القنبلة وهي تضع شمعة في حضنها لا يفلح في اشعالها خبير المتفجرات في البداية بواسطة أعواد الكبريت، وليعود إلى فعل ذلك بواسطة ولاعة الزوج، لكنها وفي كل مرة يستخدمها لتحمية السكين تنطفئ الشمعة ويعود إلى إشعالها وهكذا.

كابوس

في النهاية يمكن القول إن الفيلم يضعنا حيال كابوس حقيقي، والكاميرا لا تتوقف عن الاقتراب والابتعاد عن الشخصيات طوال الفيلم بواسطة Stabilized Tracking Camera «كاميرا محمولة ثابتة»، حيث سيكون التصوير دائماً بكاميرا محمولة «من البديهي»، لكن من دون اهتزازات الكاميرا المحمولة باليد مباشرة، إذ إنها مثبتة على جسم ستاثولوبولس الذي صوّر الفيلم بنفسه.

لا يمكن الحديث عن كاميرا محمولة بالانتقال إلى «ميتورا»، بل يمكن الحديث عن كاميرا ثابتة على قوائمها الثلاث Tripod، ذلك أن ستاثولوبولس سيعود من خلال الفيلم إلى موطنه الأصلي، سيأخذ من الدير الذي بدأنا بوصفه موقع تصوير استثنائيا، كما أن الصراع في هذا الفيلم سيكون مغايراً تماماً لـ «بي، في، سي -1» حيث سيكون داخلياً نفسياً، أو حسب تعبير ستاثولوبولس نفسه «ما يلتقي عليه الفيلمان هو الوقوع في فخ يكون بمثابة وسيلة درامية، في (بي. في. سي ـ 1) تقع الشخصيات في فخ القنبلة، بينما تقع شخصيتا (ميتورا) في فخ حياتهما في الدير وحياتهما كبشر»، كما أن تقابل الجبلين سيكون على شيء من القطبية، قطب الذكورة وقطب الأنوثة الذي مهما ابتعدا فإنهما يلتقيان. الفيلم في مضمونه يحمل صراعاً أزلياً متواصلاً، هو صراع الروح والجسد، وليكون الراهب والراهبة يحملان هذا الصراع في أعتى تجلياته، بين أن ينتصرا إلى حياة الزهد والتخلي عن الشهوات أو يقع في أتون الحب المحرم، ولينتصر الخيار الثاني إذ «لا نجاة من الغواية إلا بالاستسلام لها» كما يقول أوسكار وايلد في «دوريان غراي»، وليكون بطلا الفيلم على اتصال بشكل أو آخر مع شخصيات حملتها روايات اليوناني نيكوس كازانتكس، وليمضي الفيلم في سرد تلك الصراعات والتحولات في لغة بصرية تستثمر أولاً في غرائبية وخصوصية موقع التصوير الذي سيكون بطل الفيلم الأول قبل الراهب والراهبة، ومجاورة ذلك مع «الأنيماشن» وتحويل الأيقونة إلى مفردة سينمائية، لها أن تستثمر بصرياً على هذا النحو للمرة الأولى، ولتكون معبراً نحو ما يتجول في أعماق الراهب والراهبة، حيث شعر الراهبة يتحول إلى حبل طويل يربط بين مكان إقامة كل منهما، أو في تقديم هجائية للكنيسة كما هو الحال مع «الانيماشن» الذي يضعنا أمام مذابح سرعان ما تتحول إلى بحر من الدماء، مضافاً إلى ذلك مشهد ذبح العجل وعنفه المفرط ووقوعنا على تفاصيل ذبحه ومن ثم نفخه وتقصيبه، لا لشيء إلا ليدعو الراهب الراهبة إلى غداء في البرية، يكون فاتحة اتصالهما الجسدي، كما ليقول الفيلم أيهما أجمل مشهد ذبح العجل أم الحب؟ الأول مباح أما الثاني فمحرم!

تويتر