رغم معاناة أسلافهم بعد أن جلبتهم الإمبراطورية العثمانية لاستغلالهم في أعمال شتى

الجيل الجديد من «الأفارقة-الأتراك» يتجاهلون أصولهم

صورة

قليل من يعرف أن في تركيا مواطنين سوداً من أصول إفريقية، هؤلاء هم أحفاد الأفارقة الذين جلبتهم الإمبراطورية العثمانية لاستغلالهم في أعمال شتى. وتسعى الآن هذه القومية، التي يطلق عليها بعض المؤرخين «الأفارقة-الأتراك» لمعرفة جذورها، وإحياء تراثها المندثر. وتنتشر هذه المجموعة العرقية، إضافة إلى المدن الكبرى، على طول ساحل بحر إيجة في تركيا، في قرى صغيرة. ويقول المؤرخ التركي- الإفريقي، مصطفى أولباك، في دراسة عن السيرة الذاتية لهذه الأقلية المتضائلة في تركيا «عانى الجيل الأول، وأنكر الجيل الثاني، والآن يتساءل الجيل الثالث». وصاغ هذا المؤرخ مصطلح «الأفارقة-الأتراك»، وأسس حركة إحياء هوية هذه المجموعة، وسعى لتسجيل تاريخ ما يقدر بنحو 1.3 مليون شخص قاسوا حياة العبودية عندما تم جلبهم من إفريقيا إلى المناطق التي تسيطر عليها الإمبراطورية العثمانية في ذلك الوقت، والذين لايزالون حتى اليوم مجرد حاشية في التاريخ التركي.

وفي حين أن «مكتبة الكونغرس الأميركي تذخر بأكثر من 600 كتاب عن شخصيات أميركية من أصول إفريقية، لا يمكن العثور على أي من مثل هذه الكتب أو المعلومات في الأرشيف العثماني»، كما يشير المؤرخ التركي، هاكان إردم، في تعليقه على كتاب أولباك، قبل وفاته العام الماضي. وكان أولباك يحلم بتسليم نسخة من كتابه إلى الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، وسافر إلى مطار إسطنبول في محاولة يائسة لمقابلته أثناء زيارته لتركيا لكن من دون جدوى.

ويعتقد إردم، أن 10 آلاف من العبيد كان يتم جلبهم تقريباً من إفريقيا كل عام لتسخيرهم للعمل في جميع أجزاء الإمبراطورية العثمانية خلال القرن الـ19 وحده، من ضمنهم 1000 شخص يتم إرسالهم سنوياً لما يعرف الآن بحدود تركيا الحديثة. ويتم استغلال معظمهم كخدم في منازل، أو طهاة، أو مربيات بالنسبة للنساء، ويتم تسخير بعضهم للعمل في المزارع على الطريقة الأميركية في عهد الاسترقاق.

عبودية

لم تختفِ العبودية من الأراضي العثمانية بين عشية وضحاها، ففي حين أن المرسوم الصادر عام 1857 عن السلطان عبدالمجيد الأول ألغى تجارة الرق تحت ضغط من القوى الأوروبية، لم يختفِ الرق تماماً في تركيا، لذلك، ظلت بعض الأسر، خصوصاً في إسطنبول وبالقرب من ساحل بحر إيجة، تحتفظ بعبيدها حتى أواخر القرن الـ20.

واليوم يقدر «الأفارقة-الأتراك» بعشرات الآلاف فقط، ولايزال العديد منهم يعيشون في قرى هاسكوي، وينيسيفلر، وينيكوي بالقرب من إزمير، بينما يقيم البعض الآخر في المناطق الريفية المحيطة بأيفاليك وأنطاليا وأضنة، وأيضاً في إسطنبول. وفي إزمير، وفّرت الدولة مساكن آمنة لهم وساعدتهم على الاندماج في سوق العمل. وصار الأتراك يطلقون على قرى وأحياء بأكملها يسكنها «الأفارقة-الأتراك»، اسم مناطق «أراب» -وهي الكلمة التركية للإشارة الى العرب- ولايزال الأتراك يستخدمون هذه الكلمة للإشارة إلى الأتراك- الأفارقة.

يقول خليفة أولباك، واسمه ساكر دوغلور، ويسكن قرية هاسكوي، معلقاً «نحن أتراك ومسلمون ونفخر بذلك». ساكر ميكانيكي متقاعد، تولى قيادة جمعية الثقافة والتضامن الإفريقية بعد وفاة أولباك في عام 2016. وتقول شقيقة زوجة ساكر، واسمها خديجة «لم أسأل نفسي أبداً لماذا أنا تركية سوداء»، وتضيف «لم أكن أكترث أو اهتم من أي مكان أتيت». وظلت الحال على ما هي عليه حتى عام 2006، عندما قدم التلفزيون الوطني التركي فيلماً وثائقياً عن «المجتمع الأسود» في تركيا، وكتاب أولباك الجديد «كينيا-كريت-إسطنبول: سيرة ذاتية من ساحل الرقيق». حتى ابنة أولباك نفسها، واسمها زينب، لم تكن تعرف شيئاً عن أصولها، زينب، اليوم مضيفة طيران في الخطوط الجوية التركية. ولم يكن لديها أي فكرة بأن أجدادها كانوا عبيداً.

عرق مختلط

زينب نفسها جاءت من عرق مختلط، ولكن على الرغم من ذلك، لا تثير بشرتها الزيتونية الداكنة، وشعرها الطويل المتموج كثيراً من الاندهاش في تركيا. تقول «لقد عانيت قراءة الكتاب، لذلك اضطررت إلى قراءته في جلسات، وكنت أبكي بعد قراءة كل جزء»، وتضيف «لقد سعى والدي للبحث عن هويته، لكن معظم الأتراك على شاكلته لم يكونوا سعداء للغاية بهذا الاكتشاف». كانت تدخن سيجارة قبل أن تتوجه إلى اللحاق بالطائرة، وهي رحلة ستعيدها قريباً إلى كينيا، وأطلقت ضحكة مكتومة عندما أدركت هذه المفارقة.

وتسترسل زينب قائلة إن «أجدادنا لا يريدون أن تعرف الأجيال الجديدة أصولها، لذلك أبقوا ذلك سراً»، لكن «مرت 10 سنوات تقريباً منذ صدور كتاب والدي، وخلال تلك السنوات الـ10 الماضية، تغيرت ردود أفعال الناس». وتقول ميسوري، شقيقة ساكر «أنا فخورة بأصولي الإفريقية»، وتضيف «لكنني لا أعرف سوى القرية التي نشأت فيها». ميسوري أميّة لا تستطيع القراءة أو الكتابة، وتقول: «لم تكن لدي فرصة لتعلم القراءة، لكن إذا كنت قد تعلمت، فلا شك أنني سأكون في وضع أفضل».

يتكوّن مجتمع الأفارقة-الأتراك من الطبقة العاملة إلى حد كبير، ويبدو كأن القرى الريفية التي يسكنها هذا المجتمع قد تأثرت بالحياة المدنية المتسارعة، وحركة التصنيع في تركيا خلال العقدين الماضيين.

وإلى جانب الصعوبات التي تعترض حياة الطبقة العاملة في المناطق الريفية في تركيا، يعاني الأتراك-الأفارقة العنصرية، وفقاً للباحثة بجامعة ايغ في أزمير، لولوفر كوروكميز. وتقول: إن «المساواة لا تكفي، لأن عدم وجود عنصرية هيكلية لا يعني أنها لا توجد في الواقع».

ويدرك بعض الأفارقة-الأتراك أن حياتهم لا تمضي بسلاسة كل يوم، ففي بعض القرى يضع بعض «الأتراك البيض» أيديهم على عيون أطفالهم عندما يمر بجانبهم «أتراك سود»، معتقدين أن النظر إليهم يجلب الحظ السيّئ. ومع ذلك، ينظر البعض الآخر إلى التعويذات التي يضعها الأفارقة- الأتراك على أنها تجلب الحظ. ويقول أحد الأفارقة-الأتراك «في المدن كثيراً ما نناضل في بعض الأحيان للعثور على وظائف دون جدوى، ومن دون سبب واضح»، رغم أن المجتمع عادة ما يدعي بأن هناك قدراً ضئيلاً من التمييز. العنصرية والتمييز هما اللذان حفزا الناشط الحقوقي والكاتب مصطفى أولباك، الذي علم نفسه بنفسه، واستطاع أن يبحث في تاريخ عائلته، وكانت النتيجة عملاً مشابهاً لرواية «الجذور»، التي ألفها الكاتب الأميركي، أليكس هالي لعام 1976، والتي تحكي قصة إفريقي تم بيعه عبداً في الولايات المتحدة.


يدرك بعض الأفارقة-الأتراك أن حياتهم لا تمضي بسلاسة كل يوم، ففي بعض القرى يضع بعض الأتراك البيض أيديهم على عيون أطفالهم عندما يمر بجانبهم أتراك سود، معتقدين أن النظر إليهم يجلب الحظ السيّئ. يتكون مجتمع الأفارقة-الأتراك من الطبقة العاملة إلى حد كبير، ويبدو كأن القرى الريفية التي يسكنها هذا المجتمع قد تأثرت بالحياة المدنية المتسارعة وحركة التصنيع في تركيا خلال العقدين الماضيين.


أغانٍ تعبّر عن حزن عميق

 المغنية الراحلة اسميراي تعبّر عن آلام قوميتها. غيتي

تعكس أغاني المغنية الإفريقية-التركية، اسميراي دريكر، شعورها بالحزن لكونها من أقلية عرقية. هذه المغنية، التي تنتمي إلى أصول إفريقية اشتهرت خلال حياتها بترديدها للأغاني ذات الصلة بالجيش وعالم الأنثروبولوجيا الثقافية. وتعبّر من خلال أغانيها عن أسلافها الذين تم جلبهم إلى الأناضول كعبيد من المغرب، وزنجبار، وكينيا، والسودان، والنيجر، وليبيا. أصبحت هذه المغنية مشهورة في تركيا بعد أغنيتها عام 1977، «تعال، أبلغني الرسالة، تعال»، وهذه الأغنية تخاطب الجنود الأتراك الشباب الذين يتجهون إلى منازلهم بعد أداء خدمتهم العسكرية الإلزامية. واستمرت في إصدار الألبومات والأغاني لعقود حتى وفاتها في عام 2002، ومن بين أغانيها الأخرى «لا تنساني».

وفي موضوع عن هذه المغنية في صحيفة «ناشيونال» الإماراتية، الصادرة باللغة الإنجليزية، تساءلت كاتبة المقال، كورنيليا بنيسيوز، عن كيفية رؤية الآخرين لهذه المغنية كتركية سوداء في بلد لم يكن فيه متسع للتعدد الثقافي، والتنوّع خلال فترة الإمبراطورية العثمانية، وترد على ذلك بأن الإجابة تكمن في أغانيها التي يحس فيها المستمع بمشاعر الإحباط والتحامل. وتعتبر أغنية «13.5» هي أكثر أغانيها تعبيراً عن واقع قوميتها، والتي تعكس تحيزاً قديماً ولكنه شائع ضد الأشخاص ذوي البشرة الداكنة في تركيا، حيث يعتقد المجتمع التركي بخرافة تزعم أنه يجب عليك أن «تقرص» نفسك عندما ترى شخصاً ذا بشرة داكنة، كناية عن التشاؤم، وسعت خلال حياتها كي تجعل الأتراك ينظرون إلى أنفسهم على أنهم من قوميات متنوعة. ويقول آخرون إنها «تستحق الاحترام والتقدير، ليس فقط كمطربة رائعة، ولكن أيضاً كرسول للمساواة الاجتماعية والاحترام المتبادل».

تعكس أغاني المغنية الإفريقية-التركية، اسميراي دريكر، شعورها بالحزن لكونها من أقلية عرقية.

ترجمة: ع.خ عن «أحوال» التركية


معتقدات مغلوطة

 

الأفارقة-الأتراك يعانون العنصرية. غيتي

لدى السكان المحليين في منطقة بحر إيجة بعض المعتقدات الخرافية عن السود. حيث يعتقد البعض منهم أنه إذا رأى شخصاً أسود وقرص هذا الشخص صديقه الذي يسير بجواره فإن رغبته ستتحقق. وتتذكر سازر ابنة المؤرخ التركي- الإفريقي، مصطفى أولباك، أنها رأت في إحدى المرات سيدتين قرصت كل منهما الأخرى عند رؤيتها، وبدا عليها الانزعاج وعدم الارتياح، وقالت لهما مازحة إنهما إن أرادتا أن تتحقق رغباتهما فعلاً، فإنّ عليها أن تضربهما بشدة، وقبلتا بذلك لكنها ضحكت منهما.

في بعض الأحيان لا يصدق بعض الأشخاص أن الأفارقة-الأتراك هم مواطنون أتراك بالفعل. تقول إحدى الأتراك السود إنها عندما كانت تتسوق في أحد المتاجر، اعتقد صاحب المتجر أنها سائحة، فتحدثت معه بلغة تركية سليمة، لكنه ردّ عليها بأنها تتحدث اللغة التركية أفضل منه وأفضل من الأتراك الآخرين.

الخرافات الأخرى هي أن قبلة شخص أسود يمكن أن تجلب الحظ. تقول التركية نفسها «إنني عندما كنت صغيرة، كان بعض الأهالي يطلبون مني أن أقبل فتياتهم الصغيرات، لأنهم حسب ما يعتقدون أن تقبيل الفتاة من قبل طفلة إفريقية سيجعلها تعثر على زوج فاضل في المستقبل». وبصرف النظر عن كونهم محور بعض الخرافات، يقول معظم الأفارقة-الأتراك إنهم لم يتعرضوا للإهانة أو التمييز من قبل المجتمع التركي. ومع ذلك، فإن التغلب على التحامل أثناء البحث عن امرأة تركية بيضاء للزواج بها ليس بالأمر السهل كما يعتقدون. ويلاحظ بعضهم أنه في بعض الأحيان لا توافق الأسرة على زواج ابنها أو ابنتها من تركي من أصول إفريقية.

عانى أولباك نفسه المضايقة في المدرسة وانقطع عن الدراسة لمدة عام، لكنه أنهى تعليمه في النهاية. وكان متزوجاً بامرأة تركية بيضاء لمدة 25 عاماً عندما أعلنت عائلتها فجأة «لن يحصل هذا الأسود على ميراث من العائلة». في النهاية طلق أولباك زوجته، ولم يكن هذا هو التعليق العنصري الوحيد أو مثال التمييز الذي مر به في حياته.

ترجمة: ع.خ عن «توداي زمان»

تويتر