غذّتها الكثير من الأحداث والمواقف السياسية

«علاقة مسمومة» بدأت تظهــــر على السطح بين الولايات المتحدة وتــــــــركيا

صورة

فيما يتعرض الاقتصاد التركي لضغوط مشددة، من المحتمل أن تواجه تركيا عقوبات أميركية، بسبب شرائها منظومة صواريخ الدفاع الجوي الروسي إس 400، وعقوبات من الاتحاد الأوروبي، بسبب استمرارها في التنقيب عن النفط والغاز قبالة ساحل قبرص. وبالنسبة لبلد يمر طريقه نحو القوة والازدهار عبر حلف شمال الأطلسي (الناتو) والاتحاد الأوروبي، فإن مجريات الأحداث هذه تمثل تحولاً جذرياً في تلك النظرة. ويبدو أن قادة البلاد يعتقدون الآن أن المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة وأوروبا هي أفضل طريقة لتعزيز مصالحهم.

السبب في هذا التحول، وهو ليس بالأمر المفاجئ، هو اصطدام الاتجاهات طويلة الأجل، والتغيرات الحديثة جداً في العالم وفي الشرق الأوسط، وفي تركيا نفسها. فقد ظلت المشكلات التي نشهدها اليوم تتفاقم وتختمر منذ عقود، لكنها لم تتعرض لسلسلة من التطورات المشؤومة والمتفاقمة كما هو الحال في الوقت الراهن، ربما لأنها لم تتساقط بشكل دراماتيكي كما يحدث الآن. وإذا رجعنا إلى الوراء، وأمعنا النظر في الكيفية التي انهار بها التحالف الأميركي التركي الآن، فإننا سنتوقع أن المواجهة بينهما لم تكن متوقعة، ولكن لسوء الحظ تفاقمت بسهولة.

طوال فترة الحرب الباردة، ظلت تركيا تشعر بالأسى لكونها الشريك الأصغر لواشنطن، لكنها تحملت ذلك مقابل حمايتها من الاتحاد السوفييتي. ونتيجة لذلك، كانت المشاعر المعادية لأميركا واسعة الانتشار في تركيا عندما وصل الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وحزبه العدالة والتنمية، إلى السلطة في نهاية عام 2002. ومع ذلك، حاول حزب العدالة والتنمية في البداية تعزيز مكانة تركيا من أجل النمو والازدهار في عالم مستقر بشكل أساسي، بقيادة الغرب. واستخدم الحزب في ذلك القوة الناعمة ليقود الشرق الأوسط في ذلك العالم. ومن المؤكد أن لدى خبير السياسة الخارجية لحزب العدالة والتنمية، أحمد داود أوغلو، وجهة نظر مبالغاً فيها حول ما يمكن أن يحققه تأثير تركيا الدبلوماسي والثقافي والاقتصادي. وأثبتت بعض جهوده المميزة، مثل محاولة التوسط بين إسرائيل وسورية، نجاحها. أما محاولاته الأخرى، مثل اقتراحه عام 2010 التوصل إلى اتفاق نووي إيراني، فلم تكن موفقة بسبب مواقف واشنطن.

تنامي الطموحات

مع بداية «الربيع العربي» في أواخر عام 2010، نمت طموحات تركيا. ووسط هذه الفوضى رأى داود أوغلو وأردوغان فجأة فرصة لشيء يمكن وصفه بالسياسة الخارجية «الإسلامية»، التي هي وسيلة لاستقطاب القوى المتحالفة مع «الإخوان» الساعين إلى السلطة في جميع أنحاء الشرق الأوسط، ولو كان ذلك يعني المواجهة المباشرة مع نظام الرئيس السوري، بشار الأسد، ومع إيران. إلا أن ذلك يعني أيضاً أن أهداف تركيا الأيديولوجية متوافقة بما فيه الكفاية مع توقعات واشنطن الليبرالية، التي يمكن للإسلاميين الوصول إليها من خلال الانتخابات. وكان بعض المحللين مفرطين في التفاؤل بشأن استنساخ «النموذج التركي»، إلا أنه يبدو واضحاً بالقدر نفسه عند استرجاع ذكرياتنا في دول مثل مصر وليبيا وسورية، فشل هذا الاستنساخ.

وبدلاً من ذلك، أدى فشل «الربيع العربي» في النهاية إلى تضخيم الاختلافات الاستراتيجية بين واشنطن وأنقرة، حيث أكدت الأحداث لأردوغان شكوكه حول نوايا الغرب. ومن هذه النقطة فصاعداً، واجهت حكومة أردوغان معارضة داخلية مكثفة، وانتقاداً غربياً، ومقاومة إقليمية، والتي يبدو أنها تضافرت لتخلق شعوراً عميقاً بالحصار لدى تركيا. في صيف عام 2013، على سبيل المثال، تزامنت الاحتجاجات في مصر، التي أدت إلى الإطاحة بالرئيس السابق، محمد مرسي، مع الاحتجاجات ضد إزالة منتزه جيزي، ما يعني ضد استبداد أردوغان المتزايد في تركيا. وسائل الإعلام الغربية، التي تعاطفت ذات يوم مع أردوغان، بدأت بالفعل في التشكيك في مؤهلاته الديمقراطية، حيث إن دعمها الشديد لاحتجاجات غيزي كان بمثابة تغيير واضح في نهجها ذلك. ولعب الوضع في سورية خلال العام التالي دوره المدمر بشكل فريد، فمع تنامي قلق واشنطن تدريجياً بشأن الدعم التركي للجماعات المتطرفة المرتبطة بـ«القاعدة»، أصبحت تركيا تشعر بالقلق أكثر من أي وقت مضى بشأن قوة الأكراد السوريين المرتبطين بحزب العمال الكردستاني، ورأت أن الجماعات الإسلامية المتطرفة لها ثقل موازن جذاب. وما زاد الطين بلة، أن احتجاجات غيزي أعقبها انفصال شعبي درامي بين أردوغان والزعيم الديني، فتح الله غولن، الذي دعم من قبل صعود أردوغان إلى السلطة. وكحليف لأردوغان، ساعدته حركة غولن في الماضي على تلميع سمعته في واشنطن. وانقلبت عليه الحركة في الوقت نفسه الذي بدأ فيه الرأي الغربي يقلب له ظهر المجن، واشتمّ الكثيرون في تركيا رائحة علاقة تآمرية بين الحركة والغرب.

تعميق الانقسامات

الأعوام التالية عمّقت هذه الانقسامات أكثر، وتحمل أردوغان الوزر الأكبر منها، فعندما كانت الحكومات التركية الأخرى تليّن مواقفها كي لا تختلف مع شركائها، كان أردوغان يتشدد أكثر في مواقفه، حتى لو كان ذلك يعني عزلته. وبعد أن تغير نظام الحكم في مصر، ظلت أنقرة تعارض بشدة الحكومة الجديدة، في الوقت الذي قررت فيه الكثير من الدول العربية دعم الحكومة المصرية الجديدة. وسرعان ما وجدت تركيا نفسها تواجه تلك البلدان بشأن مجموعة من القضايا. وعندما قاطعت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، ودول عربية أخرى، قطر في عام 2017، اندفع أردوغان ليدعم قطر، مقتنعاً بأنه يمكن أيضاً أن تقاطعه تلك الدول في يوم من الأيام. وفي شرق المتوسط، جعل التعاون بين مصر واليونان وقبرص وإسرائيل أنقرة تحس بأنها محاصرة قريباً من أرضها.

نظرية المؤامرة

في هذه الأثناء، في سورية بعثت أنقرة نظرية المؤامرة التركية من جديد، عندما آثرت الجلوس ومراقبة الموقف على أمل أن يهزم تنظيم «داعش» منافسيه الأكراد السوريين في نهاية المطاف. وطوال الحرب الباردة، دعمت الولايات المتحدة تركيا بقوة ضد تمرد حزب العمال الكردستاني «الماركسي»، ولكن ظلت واشنطن تدعم الأكراد العراقيين في حربي العراق الأولى والثانية في محاولتهم للحصول على الحكم الذاتي. وأثار ذلك قناعة لدى العديد من الأتراك بأن واشنطن كانت تدعم بشكل مباشر المتمردين الأكراد في تركيا كوسيلة لتمزيق البلاد. وهكذا، عندما بدأت واشنطن بالفعل في تسليح المنظمة الشريكة لحزب العمال الكردستاني في سورية، التي يطلق عليها وحدات حماية الشعب، بدا وكأنها تؤكد أسوأ مخاوف الأتراك عبر الطيف الأيديولوجي في البلاد، لدرجة أنها ساعدت على ائتلاف أردوغان مع فصيل مهم من القوميين في البلاد.

وخلص أردوغان إلى أن أعضاء غولن كانوا وراء الانقلاب الفاشل، وهذا يعني أن واشنطن كانت وراءه أيضاً. وما زاد من الشكوك التركية حول علاقة الولايات المتحدة بالانقلاب، عدم موافقة واشنطن في ما بعد على تسليم غولن الذي يعيش في المنفى في ولاية بنسلفانيا. وبعد المحاولة الانقلابية، اتخذت المناقشات الثنائية بين الولايات المتحدة وتركيا نبرة عاطفية بشكل خاص، حيث يكافح الكثير من المحاورين الأميركيين ليشرحوا للجماهير التركية مبررات السياسة الأميركية في هذا الخصوص.

القوة الصلبة

في عالم أكثر فوضوية وتهديداً، تضع أنقرة بشكل متزايد ثقتها في القوة الصلبة. في أوائل عام 2018، على سبيل المثال، عندما تحركت واشنطن لتعزيز موقع وحدات حماية الشعب في شمال شرق سورية، على الرغم من الاحتجاجات التركية، غزت تركيا عفرين التي تسيطر عليها وحدات حماية الشعب. وأعلن معلقون أتراك أن استعراض القوة هذا سيثبت أن تركيا لا يمكن تجاهلها، وقد ادعوا ذلك عندما أعلن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، انسحابه من سورية في وقت لاحق من ذلك العام. الآن، تتخذ تركيا النهج نفسه بمطالبتها بمصادر طاقة في شرق المتوسط، حيث أرسلت سفنها الحربية لوقف عمليات قبرص في التنقيب عن الغاز وبدء عمليات التنقيب الخاصة بها.

• مع تنامي قلق واشنطن تدريجياً بشأن الدعم التركي للجماعات المتطرفة المرتبطة بـ«القاعدة»، أصبحت تركيا تشعر بالقلق أكثر من أي وقت مضى بشأن قوة الأكراد السوريين المرتبطين بحزب العمال الكردستاني، ورأت أن الجماعات الإسلامية المتطرفة لها ثقل موازنٍ جذاب.

• حزب العدالة والتنمية حاول في البداية تعزيز مكانة تركيا من أجل النمو والازدهار في عالم مستقر بشكل أساسي، بقيادة الغرب، واستخدم الحزب في ذلك القوة الناعمة ليقود الشرق الأوسط في ذلك العالم.

نيكولاس دانفورث - زميل كبير زائر بمؤسسة جيرمان مارشال فند

تويتر