ضغوط متبادلة بين واشنطن وطهران

التوترات الأميركية - الإيرانية.. الحسابـات والمآلات

صورة

تُصعّد الولايات المتحدة من ضغوطها على النظام الإيراني بعد إعادة فرض العقوبات على الاقتصاد الإيراني، عقب انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي، في إطار سياسة أميركية عُنوانها «الضغط الأقصى»، شملت: تسمية الحرس الثوري الإيراني منظمة إرهابية، وإنهاء الإعفاء الذي سمح لبعض الدول بشراء النفط الإيراني، إضافة إلى فرض عقوبات إضافية ضد قطاعات الحديد والصلب والألومنيوم والنحاس في طهران، والتي تُشكّل أكبر مصدر لإيرادات الصادرات غير البترولية وتمثل 10% من صادرات الجمهورية الإسلامية، وذلك لمزيدٍ من إضعاف الاقتصاد الإيراني، فضلاً عن إرسال حاملة طائرات، وقاذفات بي-52، وصواريخ باتريوت، وإعادة انتشار القوات الأميركية في مياه الخليج العربي. ناهيك عن تهديدات الرئيس الأميركي «دونالد ترامب» بردٍّ قاسٍ إذا هددت طهران القوات الأميركية ومصالح الولايات المتحدة وحلفاءها بالمنطقة.

وتهدف إدارة «ترامب» من سياسة «الضغط الأقصى» ضد إيران إلى منعها من الإقدام على أية خطوة محتملة قد تحاول من خلالها رفع كلفة تلك الإجراءات العقابية التي تتعرض لها، وهو ما يمكن أن يفرض -بدوره- تداعيات مباشرة على دول الأزمات، ولا سيما سورية والعراق ولبنان واليمن، وهي الدول التي تسعى طهران إلى استغلال نفوذها لدى بعض الميليشيات الإرهابية الموجودة بها في سياق تصعيدها الحالي مع واشنطن.

وفي المقابل، فإن إيران مارست التصعيد من قبلها، حيث هدد الرئيس حسن روحاني بالانسحاب من الاتفاق النووي، وبدأت الميليشيات التابعة لطهران في التعرض لمصالح حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، حيث استهدفت أربع سفن في المياه الاقتصادية لدولة الإمارات قبالة سواحل إمارة الفجيرة، وضربت محطتين لضخ النفط بالسعودية بواسطة طائرات مُسيّرة، فضلاً عن تصريحات لمسؤولين إيرانيين بالرد القاسي على أية ضربة عسكرية أميركية، إضافة إلى بدء التحرك على المستوى الدولي من أجل التواصل مع القوى الدولية المعنية، سواء باستمرار العمل بالاتفاق النووي أو بالعلاقات الثنائية معها.

ويُنذر التصعيد الأميركي - الإيراني المتبادل باحتمالات اندلاع مواجهات عسكرية بينهما، لكن هناك بعض التحليلات التي تُشير إلى تضاؤل فرص حدوثها في مقابل سعي الطرفين لتعزيز موقفهما التفاوضي في المرحلة المقبلة. وتسعى طهران لتحقيق ذلك عبر استخدام نفوذها في الإقليم، ولا سيما في دول الأزمات، قبل أن توافق بالفعل على قبول هذا الخيار. ويتوازى ذلك مع حرصها -في الوقت نفسه- على تعزيز قدرتها على مواجهة تداعيات العقوبات الأميركية إلى حين إجراء الانتخابات الرئاسية للولايات المتحدة المقررة في نوفمبر من العام المقبل، عسى أن تُسفر في النهاية عن تغيير الإدارة الأميركية الحالية، بشكل قد يؤدي إلى حدوث تحوّل كبير في سياسة واشنطن تجاهها.

وعليه يُناقش هذا الملف، الذي ينشر على ثلاث حلقات، ملامح التوتر بين الولايات المتحدة وإيران، ومؤشرات التصعيد المتبادل، وتأثير التهديدات الإيرانية للمنطقة في أسواق النفط العالمية، واحتمالات اندلاع مواجهات عسكرية بينهما، والتفسيرات التي تُقلل من فرصها، والخيارات الإيرانية لمنع تعرضها لضربة عسكرية، والسعي كلما أمكن للحفاظ على مصالحها، واحتمالات أن يكون التصعيد مدخلاً للتفاوض بين كل من واشنطن وطهران.


سياسة «طرق الأبواب» تواجه عقبات عدة (1-3)

جولة جواد ظريف الآسيوية «تتعثر»

بدأت إيران في التحرك على المستوى الدولي من أجل التواصل مع القوى الدولية المعنية سواء باستمرار العمل بالاتفاق النووي أو بالعلاقات الثنائية معها، وذلك بعد الإجراءات التصعيدية التي اتحذتها للرد على العقوبات التي فرضتها أميركا ضدها، وبالتوازي مع الحشد العسكري الأميركي بالقرب من حدودها. وفي هذا السياق، قام وزير الخارجية محمد جواد ظريف، في الفترة من 12 إلى 17 مايو 2019، بجولة آسيوية شملت كلاً من تركمانستان والهند واليابان والصين، بعد الزيارة التي أجراها إلى روسيا في الثامن من الشهر ذاته. لكن هذه التحركات لا يبدو أنها سوف تعزز موقف إيران بشكل كبير في ظل السياسة التصعيدية التي تواصل تبنيها والتي قد لا تتوافق مع مصالح وحسابات تلك القوى ورؤيتها لاتجاهات علاقاتها مع الولايات المتحدة والقوى الدولية الأخرى.

اعتبارات عدة:

يمكن تفسير حرص إيران على التواصل مع تلك القوى في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:

1- تجنب التوتر

تحاول إيران عبر تلك الجولة التي قام بها جواد ظريف شرح رؤيتها للإجراءات التي اتخذتها، في الثامن من مايو الجاري، للرد على العقوبات التي تفرضها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب ضدها، بالتوازي مع حلول الذكرى الأولى للانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي في اليوم نفسه من العام السابق. إذ أعلنت أنها سوف تتوقف عن بيع الفائض من اليورانيوم المخصب بنسبة 3.67% والماء الثقيل في الأسواق الدولية، حيث يسمح لها الاتفاق بالاحتفاظ بـ300 كيلوغرام من اليورانيوم منخفض التخصيب و130 طناً من الماء الثقيل.

وهنا، لا يمكن فصل مسارعة إيران إلى فتح قنوات التواصل مع تلك القوى عن المواقف التي اتحذتها الأخيرة تجاه تلك الإجراءات. إذ كان لافتاً أن الصين حرصت على تأكيد أهمية تنفيذ الاتفاق النووي بشكل كامل باعتبار أن كل الأطراف مسؤولة عن تحقيق ذلك.

وإذا كان ذلك يعني أن الصين توجه انتقادات مباشرة للولايات المتحدة بسبب انسحابها من الاتفاق النووي وإعادتها فرض عقوبات على إيران، فإنه يعني أيضاً، وربما يكون ذلك هو الأهم، أنها حريصة على تبني موقف حذر تجاه التداعيات التي يمكن أن تنتجها الإجراءات التي اتخذتها إيران، باعتبار أنها لن تعزز احتمالات مواصلة العمل بالاتفاق النووي، خصوصاً أن إيران تحاول عبر تلك الإجراءات ممارسة ضغوط مضادة عبر التلويح باستئناف أنشطتها النووية الخاصة بتخصيب اليورانيوم وإنتاج الماء الثقيل.

وبمعنى آخر، فإنه رغم أن الصين أعلنت «تفهمها» موقف إيران، ودعمها للأخيرة لـ«حماية حقوقها الشرعية»، خلال اللقاء الذي جمع ظريف ونظيره الصيني وانغ يي في بكين في 17 مايو الفائت، إلا أن هذا الموقف قد يكون مؤقتاً، لحين تبلور معطيات جديدة ربما تدفع الصين إلى إجراء تغييرات فيه باتجاه الابتعاد نسبياً عن الموقف الإيراني.

وهنا، فإن المتغير الأهم الذي قد يؤثر في موقف الصين المؤيد للإجراءات الإيرانية يتمثل في الخطوات التصعيدية التالية التي يمكن أن تتخذها طهران في مرحلة ما بعد الثامن من يوليو المقبل، موعد انتهاء مهلة الـ60 يوماً التي منحتها للقوى الدولية من أجل الاستجابة لمطالبها الخاصة برفع مستوى التعاملات البنكية والتجارية معها للاستمرار في العمل بالاتفاق النووي.

ففي هذه الحالة، سوف توجه تلك الإجراءات ضربة قوية للاتفاق النووي، خصوصاً أنها ستؤدي إلى إفراغه من مضمونه، باعتبار أن إيران ستقدم على رفع مستوى تخصيب اليورانيوم، ربما إلى المستوى السابق الذي وصلت إليه وهو 20%، وإعادة تشغيل مفاعل «آراك» الذي يعمل بالماء الثقيل ويمكن أن ينتج البلوتونيوم. وقد هدد رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيراني علي أكبر صالحي، في الثامن من مايو الماضي، باستئناف عمليات التخصيب لمستوى 20% في غضون أربعة أيام فقط.

2- توسيع نطاق التعاون

ما زالت إيران تُعوِّل على أن العلاقات الثنائية مع بعض الدول، مثل الصين والهند، يمكن أن تساعدها في التعامل مع التداعيات التي تفرضها العقوبات الأميركية. وبمعنى آخر، فإن إيران تحاول في الوقت الحالي تعزيز فرص استمرار التعاملات التجارية، خصوصاً في مجال الطاقة، مع تلك الدول، للحيلولة دون نجاح الإجراءات التي تتخذها الإدارة الأميركية في تحقيق أهدافها، خصوصاً في ما يرتبط بتقليص مستوى الصادرات النفطية.

ورغم أن طهران تعتبر، فضلاً عن اتجاهات أخرى، أن محاولات واشنطن «تصفير» صادراتها النفطية تواجه عقبات عدة، لا سيما في ظل الآليات التي تستخدمها للتعامل مع ذلك، والتي اكتسبت خبرة استخدامها خلال مرحلة العقوبات الدولية، خصوصاً في الفترة ما بين عامى 2012 و2015، فإن أهداف طهران لا تنحصر في ذلك، إذ إن الأهم بالنسبة لها هو ضمان تصدير أكبر قدر ممكن من الصادرات النفطية، باعتبار أن تخفيض مستواها ينتج مشكلة لا تستطيع إيران التعامل مع تداعياتها في المرحلة الحالية، لا سيما أنها تُعوِّل على عوائد تلك الصادرات بشكل كبير، حتى وإن كان حصولها على تلك العوائد يواجه بدوره عقبات عديدة في ظل العقوبات الأميركية.

ولذا، كان لافتاً أن الجولة الآسيوية التي قام بها ظريف شملت ثلاثاً من أكبر أربع دول مشترية للنفط الإيراني في القارة الآسيوية، وهي الصين والهند واليابان، وأنها توازت أيضاً مع ما كشفت عنه تقارير عدة، في 16 مايو الجاري، من قيام إيران بمواصلة صادراتها من الطاقة إلى الصين، حيث أشارت إلى أن ناقلة تحمل نحو 130 طناً من زيت الوقود الإيراني أفرغت حمولتها في صهاريج للتخزين في مدينة تشوشان الصينية، وهو ما دفع وزارة الخارجية الأميركية إلى تأكيد أن «الولايات المتحدة الأميركية تأخذ على محمل الجد الانتهاكات المزعومة للعقوبات الإيرانية وستتخذ إجراءات إذا لزم الأمر».

3- ظهير دولي

يبدو أن إيران لا تستبعد أن يتم نقل ملفها النووي من جديد إلى مجلس الأمن، لإعادة استصدار العقوبات الدولية التي تعرضت لها قبل الوصول للاتفاق النووي. وهنا، فإن إيران ربما تسعى إلى الاستناد لظهير دولي يمكن أن يساعدها في تقليص حدة الضغوط التي تتعرض لها على المستوى الدولي. وقد كان لافتاً أيضاً أن الرئيس حسن روحاني حذر، في الرسالة التي وجهها إلى القوى الدولية، في الثامن من مايو الماضي، من «رد حاسم» في حالة ما إذا تم نقل الملف الإيراني إلى مجلس الأمن.

ومع ذلك، فإن هذه المحاولة قد لا تعزز موقف إيران كثيراً، لا سيما أن أي خطوات قد تتخذها دول مثل الصين وروسيا، للحيلولة دون تعرض إيران لمستوى أعلى من الضغوط الدولية سوف تواجه عقبات عدة، خصوصاً أن ذلك سيرتبط بحساباتها مع الأطراف الأخرى المعنية بهذا الملف، وبما يمكن أن تؤول إليه النقاشات التي ستجري بينها، وفقاً لما نص عليه الاتفاق النووي، في حالة ما إذا اتخذت إيران إجراءات تصعيدية جديدة خاصة برفع مستوى التخصيب إلى 20% وإعادة تشغيل مفاعل «آراك» على غرار ما كان قائماً في مرحلة ما قبل الوصول للاتفاق النووي.

من هنا، يمكن القول إن إيران سوف تواصل مساعيها لتعزيز موقفها على الساحة الدولية، استباقاً للإجراءات العقابية الجديدة التي يمكن أن تتخذها الإدارة الأميركية في المرحلة المقبلة، بسبب رفضها الاستجابة لدعوتها بإجراء مفاوضات جديدة ومحاولاتها الالتفاف على تلك الإجراءات.


- أي خطوات قد  تتخذها دول مثل الصين وروسيا،  للحيلولة دون تعرض  إيران لمستوى أعلى  من الضغوط الدولية  سوف تواجه عقبات  عدة، خصوصاً أن ذلك  سيرتبط بحساباتها  مع الأطراف الأخرى المعنية بهذا الملف،  وبما يمكن أن تؤول إليه النقاشات التي  ستجري بينها، وفقاً  لما نص عليه الاتفاق  النووي، في حالة ما إذا اتخذت إيران  إجراءات تصعيدية  جديدة خاصة برفع  مستوى التخصيب  إلى 20% .

تويتر