تحالفات جديدة قيد التشكّل

الخيارات التركية إزاء توتر العلاقات مع الولايات المتحدة

صورة

تعهد الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في أعقاب فوزه بانتخابات الثامن من نوفمبر 2016، بإنهاء التوتر في العلاقات الأميركية - التركية، بعد لقائه نظيره التركي، رجب طيب أردوغان، في واشنطن ونيويورك، في مايو وسبتمبر الماضيين، على الترتيب، حيث شهدت خلال فترتَي الرئيس السابق، باراك أوباما، مرحلة من التوتر بعد عقود من التحالف الاستراتيجي. غير أن ترامب أخفق حتى الآن في تحقيق آماله، وذلك لاستمرار التوتر بين البلدين بسبب اختلافات سياساتهما، وسعي كل منهما إلى تعزيز مصالحه الإقليمية، ولو على حساب الطرف الآخر. وهو الأمر الذي دفع كثيرين داخل أنقرة وواشنطن إلى الحديث عن استمرار تدهور العلاقات خلال السنوات المقبلة، مع توجه تركيا للبحث عن حلفاء جدد إقليمياً وعالمياً، في أعقاب اهتزاز تحالفها مع الولايات المتحدة والدول الغربية أخيراً.

• بعد تفاقم التوتر بين الولايات المتحدة وتركيا، تحركت الأخيرة على أكثر من محور واتجاه لتعويض خسارة الحليف الأميركي، والخشية من التداعيات الاستراتيجية على أمنيها الوطني والقومي، ولعل الهاجس الأساسي لتركيا في كل تحركاتها هو الحد من مخاطر إقامة دولة كردية في المنطقة على أمنها.

• التوتر لن يستمر

تشهد العلاقات الأميركية - التركية أخيراً تفكيكًا لبنيتها القديمة، لكن التوتر الحادث في العلاقات لن يستمر طويلاً لأهمية كل طرف للآخر، ولأن الخلافات السياسية الراهنة قد تكون إرهاصات لعلاقة جديدة، في وقت تمر منطقة الشرق الأوسط بتطورات تجعل كل طرف لا يستطيع التخلي عن الآخر، فضلاً عن أن استمرار التوتر في العلاقات سيكون على حساب العلاقة التاريخية بين البلدين، لمصلحة التحالف الروسي - الإيراني، وربما ينعكس كل ما سبق على تسويات في المنطقة تُعيد تموضع العلاقة بين واشنطن وأنقرة على أسس جديدة.

القضايا الخلافية

تتفاقم الخلافات بين الولايات المتحدة وتركيا، إذ لم تعد العلاقة بينهما تأخذ صيغة التحالف الاستراتيجي، كما كانت الحال منذ انضمام أنقرة إلى حلف شمال الأطلنطي (الناتو) عام 1952، بل صارت تأخذ صفة المواجهة الدبلوماسية والسياسية والأمنية إزاء القضايا الخلافية، التي يمكن حصرها في ما يلي:

1- الدعم الأميركي لأكراد سورية

شكّل الدعم الأميركي لوحدات حماية الشعب الكردي، ومن ثم قوات سورية الديمقراطية، نقطة خلاف كبيرة بين الدولتين، حيث ترى تركيا أن الهدف الأساسي من هذا الدعم ليس محاربة تنظيم «داعش» بقدر كونه دعماً لإقامة دولة كردية في المنطقة، ستكون هي المتضرر الأكبر منها. وقد تسبب عدم استجابة الإدارة الأميركية السابقة بقيادة أوباما، والحالية بقيادة ترامب، لطلب أنقرة الدائم بوقف الدعم الأميركي للأكراد الذي يهدد الأمن القومي التركي في زيادة التوتر بين البلدين.

2- الموقف الأميركي من الأزمة السورية

تشعر تركيا بخذلان شديد من سياسة الحليف الأميركي السابق إزاء الأزمة السورية، إذ إنها كانت تعتقد أن الإدارة الأميركية ستتدخل في مرحلة ما من مراحل الأزمة، وتجبر النظام السوري على الرحيل قبل أن تكتشف أن أولوية واشنطن ليست رحيل النظام، فيما كانت أنقرة قد تورطت عسكرياً في هذه الأزمة، وهو ما وضعها لاحقاً في صدام مع روسيا وإيران، قبل أن تنفتح على البلدين وتدخل معهما في تفاهمات لعل أهمها أستانا.

3- تسليم الداعية التركي فتح الله غولن

منذ الانقلاب العسكري الفاشل، صيف العام الماضي، تحول ملف الداعية، فتح الله غولن، الذي تتهمه الحكومة التركية بالوقوف وراء الانقلاب، إلى ملف خلافي بين واشنطن وأنقرة، إذ إن كل جهود الأخيرة فشلت في إقناع الأولى بتسليم غولن، حيث تقول الإدارة الأميركية إن الملف قانوني - قضائي، وإن الأدلة التي قدمتها تركيا غير كافية.

4- سياسة الرئيس أردوغان

تشكّل مجمل سياسات الرئيس التركي وأيديولوجيته ملفاً خلافياً صامتاً بين الجانبين؛ إذ استخدم أردوغان بطموحاته الجامحة كل الأيديولوجيات الدينية (الإسلام السياسي) والقومية (العثمانية الجديدة)، والإمكانات السياسية والاقتصادية والعسكرية لتركيا، لتحقيق طموحاته، ما خلق انطباعاً لدى الغرب - بشقيه الأميركي والأوروبي - بأن الدولة التركية تحت حكم أردوغان لم تعد تلك التي أسسها كمال أتاتورك، وأنه وضعها في مواجهة مع الغرب في العديد من القضايا، وعليه تعالت الأصوات المطالبة بوقف مفاوضات عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، وطردها من عضوية حلف الناتو.

5- العلاقات مع إيران

سلط اعتقال السلطات الأميركية لرجل الأعمال الإيراني، رضا ضراب، الضوء على ملفات مالية وفساد وغسيل أموال دولية، من أجل خرق العقوبات الأممية المفروضة على طهران، حيث أظهرت التحقيقات دور رجال مقربين من الرئيس التركي في خرق هذه العقوبات، وتهريب مليارات الدولارات إلى إيران تحت عناوين مختلفة، في حين تنكر الحكومة التركية ذلك.

6- ملف التأشيرات

على خلفية تراكم الخلافات بين البلدين، وزيادة حدة التوتر بينهما، أعلنت سلطاتهما وقف منح التأشيرات، التي كان آخرها قرار السلطات الأميركية عدم منح تأشيرات الدخول لوفد من وزارة العدل التركية، كانت أنقرة تأمل في أن تسهم زيارته في تخفيف حدة التوتر بين البلدين، خصوصاً بعد المذكرات التي أصدرتها السلطات الأميركية، التي تقضي باعتقال 15 عنصراً من الحرس الشخصي للرئيس أردوغان، الذين اعتدوا على متظاهرين ضده خلال زيارته إلى الولايات المتحدة في مايو الماضي.

تحولات تركية

مع تفاقم التوتر بين الولايات المتحدة وتركيا، تحركت الأخيرة على أكثر من محور واتجاه لتعويض خسارة الحليف الأميركي، والخشية من التداعيات الاستراتيجية على أمنيها الوطني والقومي، ولعل الهاجس الأساسي لتركيا في كل تحركاتها، هو الحد من مخاطر إقامة دولة كردية في المنطقة على أمنها، خصوصاً بعد الاستفتاء الذي أجراه إقليم كردستان العراق على الاستقلال، ومن أهم التحولات التركية ما يلي:

1- التقارب مع روسيا

بعد التوتر الذي نشب بين أنقرة وموسكو، إثر إسقاط الأولى مقاتلة روسية فوق الحدود السورية - التركية، جاء التقارب التركي - الروسي بمثابة رد فعل على ما تقوله أنقرة عن خذلان الحليف الأميركي لها في الأزمة السورية، وقد وصل التقارب مع موسكو إلى حد عقد صفقات استراتيجية ضخمة في مجال النفط والغاز الطبيعي والأسلحة.

2- التقارب مع إيران

حتى وقت قريب كانت تركيا تصف السياسة الإيرانية، لاسيما في سورية والعراق، بالطائفية والمذهبية، فيما كانت طهران توجه اتهامات مماثلة لها، وعلى خلفية تلك الاتهامات المتبادلة كثيراً، توترت العلاقات بين البلدين، قبل أن تشهد في الأشهر الأخيرة انطلاقة جديدة على وقع الزيارات المتبادلة لكبار المسؤولين، التي ركزت على ثلاث قضايا أساسية، تتمثل في: التنسيق في مواجهة الصعود الكردي بالمنطقة، وإقامة شراكة اقتصادية، وتفاهمات لتهدئة خفض التصعيد في سورية.

3- التقارب مع العراق

كما هي الحال مع إيران، كانت تركيا تتهم الحكومة العراقية بممارسة سياسة طائفية، وقد ركزت خلال الفترة الماضية على تطوير علاقاتها مع إقليم كردستان العراق، إلى درجة أنها وقّعت مع الإقليم اتفاقات استراتيجية في مجال النفط من دون موافقة بغداد، وذلك قبل أن يعلن الإقليم الاستفتاء على الاستقلال، ليشكل نقطة انقلاب تركي على الإقليم، لمصلحة التعاون والتنسيق مع بغداد، وصلت إلى حد اتخاذ خطوات مشتركة ضد أربيل.

ولا يستبعد كثير من المحللين أن ينسحب التقارب التركي مع كل من روسيا وإيران والعراق، إلى العلاقات مع سورية، خصوصاً بعد الانقلاب التركي على شعار إسقاط النظام، وأولوية محاربة التطلعات الكردية في سورية.

حدود التحول

ثمة من يرى أن نهاية التحالف الأميركي - التركي باتت قريبة، في ضوء صعوبة عودة التحالف بينهما إلى وظيفته الاستراتيجية بعد التطورات الأخيرة، لكن مثل هذا الأمر قد يتناقض مع مبدأ المصالح في العلاقات الدولية، خصوصاً أن أنقرة بموقعها الجيوسياسي تظل مهمة للسياسة الأميركية؛ فغير ذلك يعني خسارة تركيا لمصلحة إقامة تحالف ثلاثي، روسي - إيراني - تركي، في مواجهة السياسة الأميركية بالمنطقة.

وعليه، ثمة من يرى أن هناك جملة من العوامل التي قد تسهم في عودة الدفء إلى العلاقة الأميركية - التركية، من أهمها:

1- أنه مع القضاء على تنظيم «داعش» في سورية والعراق، لاسيما بعد تحرير كل من الرقة والموصل؛ فإن إمكانية إصلاح هذه العلاقة تصبح قوية، خصوصاً بعد الموقف الأميركي السلبي من استفتاء إقليم كردستان العراق.

2- أن الولايات المتحدة لن تفرط في القيمة الاستراتيجية لتركيا في سياستها؛ إذ إن أنقرة دولة في حلف الناتو، وعلى أراضيها العديد من المنشآت العسكرية الاستراتيجية، كقاعدة «إنجرليك» التي يرابط فيها قرابة 3000 جندي أميركي، وأسلحة استراتيجية، بما في ذلك الأسلحة النووية، وكذلك قاعدة «أزمير» التي فيها مقر القيادة البرية لقوات حلف الناتو.

3- في الطرف المقابل، فإن تركيا رغم تقاربها مع روسيا وإيران فإن منظومتها الأمنية تظل مرتبطة بحلف شمال الأطلنطي، كما أن هناك تفاوتاً كبيراً بين رؤى أنقرة وكل من موسكو وطهران إزاء العديد من القضايا، بدءاً من الأزمة السورية، ومروراً بسياسات إيران الإقليمية، ووصولاً إلى الملف الأوكراني، وعليه فإن التقارب التركي مع الدولتين قد يتعرض في أي وقت لأزمة، وربما لصدام، وهو ما يجعل من هذا التقارب تكتيكياً وليس استراتيجياً.

تويتر