مع وجود آليات مصرفية عالمية راسخة

الاتحاد الأوروبي لا يمكنه تجنب العقوبات الأميركية على إيران

صورة

أواخر الشهر الماضي، أعلن الاتحاد الأوروبي والصين عزمهما إقامة نظام مدفوعات عالمي خاص للسماح للشركات العالمية بمواصلة التجارة مع إيران، بعد اعتزام أميركا فرض عقوبات عليها عقب انسحابها من الاتفاق النووي معها في وقت سابق من هذا العام، وعلى الرغم من أن بعض هذه العقوبات سارية بالفعل، لكن الجزء الأكبر منها سيدخل حيز التنفيذ في نوفمبر.

ويمثل الإعلان خطوة صغيرة، ولكنها ملحوظة بشأن تشظي النظام الاقتصادي العالمي، إذ يسعى أصدقاء وأعداء الولايات المتحدة بالفعل إلى الابتعاد عن النظام المالي التقليدي الذي يهيمن عليه الدولار، وقدمت إدارة ترامب بشكل غير مباشر حوافز لأولئك الذين يسعون إلى تقويض الأولوية الاقتصادية للولايات المتحدة، وفعاليتها في فن إدارة الاقتصاد.

خطط الاتحاد الأوروبي

في مايو الماضي، أوفى الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بوعده القاضي بالانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني، المعروف أيضاً باسم «خطة العمل المشتركة»، وإعادة فرض عقوبات اقتصادية أحادية الجانب على إيران، وستنطلق أقوى هذه الإجراءات في الرابع من نوفمبر، التي ستؤثر بشدة في المؤسسات المصرفية الأساسية في إيران، ومبيعات النفط، وقدرتها على استخدام النظام المالي العالمي، وستمنع هذه الإجراءات إيران من استخدام نظام الدفع العالمي السائد. كما أنها ستتسبب في توقف تعامل إيران مع معظم الشركات الدولية، التي تشتري النفط الإيراني، والشركات التي تجري معاملات تجارية أخرى معها.

ويشعر أصدقاء الولايات المتحدة التقليديون وحلفاؤها بأن إدارة ترامب تعاقبهم أيضاً بسبب إلغائها هذا الاتفاق إن هم استمروا في التعامل مع إيران، وذكر رئيس الوزراء البلجيكي، تشارلز ميشيل أخيراً أنه «لا يمكن أن يقبل الاتحاد الأوروبي أن تحدد الولايات المتحدة المجالات التي تستطيع أو لا تستطيع الشركات الأوروبية أن تمارس فيها أعمالها». في البداية شعرت أوروبا بالغضب من سياسة ترامب حيال إيران، ثم لجأت أخيراً لاتخاذ مسار عملي جريء، حيث وضعت مجموعة من موظفي الخدمة المدنية الأوروبيين آليات اقتصادية عدة تهدف إلى إظهار دعم الاتحاد الأوروبي المستمر للاتفاق النووي، وتأكيد قدرة أوروبا على اتخاذ مسارها السياسي الخاص بها.

في أغسطس، أعاد الاتحاد الأوروبي رسمياً إحياء قانون الحظر، الذي كان سارياً في حقبة التسعينات، والذي يسمح له بحماية الشركات الأوروبية المعرضة للعقوبات الأميركية، أو تعويضها جراء ذلك، وفي سبتمبر أوضحت الممثلة العليا للسياسة الخارجية والأمنية للاتحاد الأوروبي، فيديريكا موغيريني، خطط الاتحاد الأوروبي لإنشاء ما يسمى بـ «وسيلة الأغراض الخاصة»، وهي مؤسسة مالية ليست بنكاً من الناحية الفنية، وتعالج المدفوعات بين إيران وشركائها التجاريين الدوليين، وفي أغسطس، قال وزير الخارجية الألماني، هيكو ماس إنه «من الضروري أن تعزز أوروبا استقلالها من خلال إنشاء قنوات دفع مستقلة عن الولايات المتحدة.. ونظام سويفت مستقل للمدفوعات».

نظام دفع جديد

إلا أن إنشاء نظام الدفع الجديد هذا وتقديمه للشركات لاستخدامه يعتبر أمراً صعباً ومعقداً، وأن الوقت ليس في صالح أوروبا. وقد عانى الاتفاق النووي بشكل كبير من الانسحاب الأميركي، وهناك ما يدعو للشك من أن ايران ستواصل الالتزام به. وفي سبتمبر، قال وزير الخارجية الإيراني، جواد ظريف إن إيران قد تستأنف برنامجها النووي. قد يعني هذا أن جهود أوروبا ستضيع سدى، لكن في الوقت الحالي، قد يكون الهدف الأكثر إلحاحاً في أوروبا هو إبقاء إيران داخل الصفقة النووية بدلاً من أن ترسم مساراً اقتصادياً مستقلاً بها.

لقد أتقنت الولايات المتحدة منذ فترة طويلة نظام استخدام العقوبات، الذي يجلب عواقب اقتصادية مدمرة على البلدان البعيدة، ولم يقلق الاتحاد الأوروبي أبداً من هذا الأمر عندما كانت المصالح الأميركية متفقة بشكل وثيق مع مصالحه الخاصة، لكن في الوقت الراهن يواجه الأوروبيون وابلاً من التعريفات الجمركية، في الوقت الذي تكشف فيه إدارة ترامب عن عدائها تجاه حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وتهاجم المحكمة الجنائية الدولية، وتعد جولة جديدة من العقوبات التي يحتمل أن تكون ضارة، وأكد رئيس مفوضية الاتحاد الأوروبي، جان كلود يونكر، عزم استقلال أوروبا عن الولايات المتحدة عندما حدد بوضوح هدف تقويض هيمنة الدولار في الأسواق العالمية.

الاعتماد على الدولار

على المدى القصير لن يستطيع السياسيون الأوروبيون إجبار الشركات الأوروبية على الاستمرار في شراء النفط الإيراني، أو تزويد إيران بأجزاء السيارات، ومن شأن هذه الأنواع من المعاملات أن تؤدي إلى فرض عقوبات عليها من قبل الولايات المتحدة، الأمر الذي من شأنه أن يحرم تلك الشركات الاستفادة من نظام المدفوعات العالمي بالدولار والاقتصاد الأميركي البالغ قيمته 20 تريليون دولار، وهو يعتبر إصدار حكم بالإعدام على أي شركة عالمية تلجأ للابتعاد عن هذا النظام.

عندما تصبح العقوبات سارية المفعول في نوفمبر، لن يستفيد سوى القليل من الشركات من قانون الحظر، لأن هذا النظام لا يوفر سوى حماية ضئيلة وتعويض طفيف للشركات المتأثرة، وينطبق الشيء نفسه على «وسيلة الحماية الخاصة»، التي لا تستطيع حماية الشركات التي تستخدمها، أو البنوك التي تعمل كبوابات بين «وسيلة الحماية الخاصة» والنظام المالي الرسمي، وتحميه من العقوبات، وقد تحظر الولايات المتحدة بشكل جيد «وسيلة الحماية الخاصة» نفسها إذا كانت تتضمن أنشطة محظورة بموجب العقوبات الأميركية، وقد أعلنت عشرات الشركات الأوروبية الكبرى، بما في ذلك إيرباص، ومايرسك، وبيجو، وسيمنز، وتوتال، عن نيتها في وقف التعامل مع إيران.

أمّا الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم التي لا تقوم بأعمال كثيرة في الولايات المتحدة ستكون قادرة على مواصلة التعامل مع إيران، وقد تستخدم «قانون الحظر» و«وسيلة الحماية الخاصة»، لكن حجم تجارة هذه الشركات لا يمثل الحجم الكافي من التجارة الإيرانية الدولية للحفاظ على الاقتصاد الإيراني من الانكماش. وبدأ بالفعل، التضخم في الارتفاع بإيران، وتستعد الشركات للدخول في أزمة نقص العملة الصعبة عندما تضرب العقوبات في غضون أسابيع قليلة، وفي عام 2012، عندما فرضت عقوبات قاسية على إيران، انخفضت صادراتها النفطية بأكثر من مليون برميل في اليوم، ومن شأن انخفاض بهذا الحجم من النفط مع بدء سريان مفعول العقوبات أن يكلف إيران (بأسعار النفط الحالية) أكثر من 80 مليون دولار من العائدات اليومية، أي نصف دخلها تقريباً من صادرات النفط.

شقوق في البنية التحتية

في ظل هذه الخلفية، يتضح أن جهود أوروبا هي مجرد حالة من التمني، فقد ألقت الرابطة المصرفية البريطانية البارزة، «يوكاي فاينانس»، على سبيل المثال، ظلالاً كبيرة من الشك بشأن الفائدة العملية لـ«قانون الحظر»، قائلة إنه يفرض مخاطر كبيرة وتعقيداً قانونياً. علاوة على ذلك، ليس هناك أي فرصة لأن تقوم «وسيلة الحماية الخاصة» بإزاحة نظام المدفوعات العالمي في بلجيكا المعروف بـ«سويفت»، وهو أحد أركان النظام المالي العالمي، وبلغ حجم التجارة الأوروبية مع إيران 787 مليون دولار في عام 2017، أي أقل من 3% من إجمالي التجارة الأوروبية، وبالمقارنة، فإن ما يقرب من خمسة تريليونات دولار تمر عبر نظام «سويفت» كل يوم، ومن المرجح أن ينجرف قدر كبير من التجارة الأوروبية الصغيرة مع إيران بعد إعادة فرض العقوبات الأميركية، ولكن حتى لو انتقل هذا الكم جميعاً تحت غطاء «وسيلة الحماية الخاصة» فإنه لن يقلل من فائدة «سويفت» أو موثوقيتها أو أرباحها، بيد أن التقليل من الجهود الأوروبية لإنشاء آلية دفع بديلة سيكون مجرد قصر نظر، حيث إن السيادة الاقتصادية للولايات المتحدة ليست أمراً ثابتاً، ولن يستمر النظام المالي التقليدي ونظام الدفع الحالي بالضرورة إلى الأبد، وفي الواقع، من المرجح أن يكون تشظي النظام الاقتصادي العالمي موضوعاً رئيساً في العقود المقبلة.


أتقنت الولايات المتحدة منذ فترة طويلة نظام استخدام العقوبات، الذي يجلب عواقب اقتصادية مدمرة على البلدان.

الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم التي لا تقوم بأعمال كثيرة في الولايات المتحدة ستكون قادرة على مواصلة التعامل مع إيران.

على المدى القصير لن يستطيع السياسيون الأوروبيون إجبار الشركات الأوروبية على الاستمرار في شراء النفط الإيراني، أو تزويد إيران بأجزاء السيارات.

تويتر