الحياة هي العلم

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

يختلف مفهوم الحياة بين الناس؛ فمنهم من يراها طعاماً وشراباً وملذاتٍ، ومنهم من يسمو بنفسه فيراها فوق ذلك وأكثر؛ يراها بالإيمان، ويراها بالعلم، ويراها بالعمل الصالح، ويراها بما ينفع الناس، وهذا هو المفهوم الصحيح للحياة التي يعيش الإنسان فيها سعيداً، ويتذوَّقُها تذوقاً صحيحاً في الدنيا موصولاً بتذوِّق حياة الآخرة، ويشهد لهذا ما ثبت في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ رسولاً» وما يُدرك هذا التَّذوق إلا بمعرفة الله تعالى التي هي الغاية الأولى من خلق الإنسان في هذا الكون، كما قال ربنا سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا}.

فالحياةُ بلا معرفة هي حياة سمْجة لا تليق بكرامة الإنسان المفضل على سائر الخليقة بالعلم والمعرفة، فآدم عليه السلام إنما تميز عن الملائكة وسجدت له بسبب علمه، الذي علمه الله تعالى.

لذلك نجد ربَّنا سبحانه يجعل من لا معرفة لديه توصله بربه إيماناً وعملاً صالحاً، في عِداد الموتى، كما قال تعالى: {إنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}، فسمى الذين لا ينتفعون بعلم «موتى» لأنه هو الموت الحقيقي، وكما قال جل شأنه: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ}، وفي هذا المعنى يقول صالح بن عبدالقدوس:

ليس من ماتَ فاستراح بميْتٍ * إنما الميْتُ ميِّت الأحياء

ويشهد لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه، مثل الحي والميت».

لذلك كانت الدعوة للعلم هي دعوة للحياة حيث يحي القلب بمعرفة الله تعالى؛ لأن العلم يدعو للإيمان، ويدعو للتفكر في عظمة الله تعالى، ويدعو للعمل النافع لنفسه وغيره، ولا أدلَّ على ذلك من قوله سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}.

فعلى كل من يريد أن يحيا حياةً سعيدة أن يتجه للعلم النافع فينهل منه بقدر ما يستطيع، فبه يحيا قلبُه، ويستنير دربه، وينفع نفسه وأهله ووطنه، وكما قالوا:

العلم يُعلي بيوتاً لا أساس لها * والجهلُ يهدم بيت العز والشرفِ

لذلك قالوا: كل عِز لم يؤطَّد بعلم فمآله إلى ذل.

وها هي دروبُ العلم تفتح كل عام في المدارس والجامعات والمعاهد بتخصصات مختلفة ليسلك كل طالب علم ما يناسب ميوله ورغبته، ثم يعمل بما تعلَّم فيسعدَ في دنياه بما نال من علم، ويلمس أثره في معيشته ومجتمعه، ويسعد في أخراه بما عمل من علم.

وكما أن الإنسان لا يجد لذَّة الحياة إلا بالعلم، فكذلك الدول لا تسعَد ولا ترقى ولا يكون لها وجودٌ حقيقي مؤثر بين الدول إلا بالعلم، وكما قال شوقي:

بالعلم والمال يبني الناسُ ملكَهمُ* لم يبن مُلك على جهل وإقلالِ

والمال لا يأتي إلا بالعلم.

فالدول التي لا تُعنى بالعلم هي في عِداد الموتى بين الدول، فليس لها وزنٌ ولا اعتبار، بل تكون محل سُخرية وابتذال.

ودولتنا الراقية قد أخذت بمعاقد العلم من كل أبوابه وطرقه ووسائله، وها هي اليوم تضاهي الدول المتقدمة في كل ميادين المعرفة، وما تبوَّأت مكانتها في الفضاء والمريخ والصناعة والحضارة والتقنية وغير ذلك إلا بالعلم الذي لم تدخر من أجله شيئاً ذا بال، ووجهت شبيبة الوطن لكل علم سنِيِّ، أينما يوجد، ولئن كان الأثر قد دعا لطلب العلم ولو بالصين، فإنها قد تجاوزت ذلك إلى الفضاء والمريخ، وهذا مما يدعو إليه ديننا الحنيف لنتحقق بالحياة السعيدة.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

تويتر