مفهوم البِرِّ

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

«البِرُّ» - بكسر الباء- اسم كريم، ومعنى عظيم، يغفل كثير من الناس عن مفهومه، فيُحرَمون معناه ومبناه، وقد يظنون أنهم قد وفَوا به وأتوا بمقصوده، والواقع خلاف ذلك، فالبِرُّ كما يُعرِّفه العلماء «هو التوسع في فعل الخير، والفعل المرضي الذي فيه تزكية النفس، كالبُرِّ في تغذية البدن، وهو تارة ينسب إليه تعالى نحو: {إنه هو الْبَرُّ الرَّحِيمُ}، وتارة إلى عبده فيقال: برَّ العبد ربه، أي توسع في طاعته، فهو من الله الثواب، ومن العبد الطاعة، ويكون في الاعتقاد وغيره، وبر الوالدين التوسع في الإحسان إليهما، وتحري محابِّهما، وتوقي مكارههما، والرفق بهما، وضده العقوق».

وهو بهذه المعاني العظيمة سهل المرام، يسعى إليه كل من له همة عالية، ومقصد نبيل، فالتوسع في الخيرات الذي هو أحد معانيه هو مقصود الله من عباده، حيث أمرهم بقوله سبحانه: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}، وبقوله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، ولم يحدد له زماناً ولا مكاناً، ليحرص المرء عليه حيثما وجده، وبما استطاع فعله، وكما قال بعضهم:

افعل الخيرَ ما استطعت وإن

                  كان قليلاً فلن تُحيط بكُلِّه

ومتى تفعل الكثير من

                  الخير إذا كنتَ تاركاً لأقلّه

وتزكية النفس مقصود لرب العباد، لأن بتزكية النفس فلاح الدنيا والآخرة، كما قال الله جل ذكره: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا}، وتزكيتها بفعل الطاعات، وسلامة القلب من الرعونات المتعلقة بالعباد كالكِبر والحسد والغِيبة والنميمة وسوء الظن والشح، أو غير ذلك مما يكسب القلب الرَّان، وأن يعمرها بالطاعات وفعل الخير والإحسان للنفس وللغير، أيّاً كان ما لم يكن في معصية الله تعالى.

أما بِر الوالدين فهو أوسع الأبواب الذي لا يتخلف عنه إلا محروم، ولا يوفق له إلا من حظي بفضل عظيم، فإنه كما عُرِّف: «التوسع في الإحسان إليهما، وتحري محابِّهما، وتوقِّي مكارههما، والرفق بهما». والتوسع في الإحسان إليهما لا يقتصر على تنفيذ أوامرهما أو توجيههما، أو تقديم الخدمة اللازمة لهما، بل هو السعي لإدخال السرور عليهما في كل ما يستطيع الولد فعله أو قوله، فذلك هو الإحسان الذي أمر الله تعالى به العيال، حيث قال: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} في أربع آيات من كتابه الكريم، وقد أبهم نوع الإحسان لتذهب النفس في فعله أي مذهب، بحيث لا يبقى سبيل يمكن تقديمه إلا فعله، فهذا هو مفهوم البر الذي أراده المولى للوالدين، الذي يقدم على الجهاد في سبيل الله تعالى، فقد سُئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: «الصلاة لوقتها، وبر الوالدين، ثم الجهاد في سبيل الله»، ويكون جزاؤه في الدنيا البركة في النفس والمال والولد، وفي الآخرة جنة عرضها السماوات والأرض، وهذا البر لا يعدله شيء من الطاعات ولو كثرت، ولا يعجز عنه إلا مخذول، فمن أدرك أبويه الكِبر أو أحدهما فلم ينل هذا البر فقد حُرم خيراً كثيراً.

وإذا عُد من لم يقم بمثل ذلك عقوقٌ؛ فإن على الأولاد أن يحاسبوا أنفسهم وينظروا أين هم من مفهوم البر الذي أراده الله تعالى ورسوله منهم، فلا يظن من لم يقم بمثل ذلك أنه قد أدرك البر؛ لكونه يقوم بخدمتهما، أو لا يرد لهما قولاً، أو لا يُسمعهما ما يسيئهما.. لا يظن أنه قد أدى حق والديه من البِر؛ فإنه يوهم نفسه ويغرها، فواجبه أكثر من ذلك.

إن بر الوالدين ليس كبيراً ولا شاقاً، إنه يسير إنْ هو حسَّن خلقه معهما، وقدم لهما ما يسرهما، وإن هو عرف أن هذه الحياة البسيطة والقصيرة الأمد، وأن جزاء ذلك ما لا يخطر له على بال في الحال والمآل والعيال.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

تويتر