والسياحة تهوى الاستدامة أيضاً

محمد سالم آل علي

استوقفني خلال الأيام الماضية خبر تناقلته وكالات الأنباء، حول توصية منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، بوضع مدينة البندقية على قائمة التراث العالمي المعرض للخطر، وكيف أن تلك المدينة التاريخية أصبحت اليوم ترزح تحت ضغط كبير، بسبب الحشود السياحية وما يرتبط بها من توسعات عمرانية ونشاطات تجارية لعبت دوراً حاسماً في التدهور الحاصل لمعظم معالم المدينة، يُضاف إلى ذلك التغير المناخي الذي أرخى بظلاله هو الآخر ليزيد الطين بلة، خصوصاً أنه بات لا يرحم ولا يعطي فرصة لالتقاط الأنفاس.

وهنا بالتحديد بدأت بالتفكير في تلك العلاقة المعقدة بين السياحة والاستدامة، فالسياحة من جهة هي عنصر رئيس وداعم أساسي للاقتصاد، بما توفره من مداخيل وإيرادات وتحسينات ملموسة على المجتمع ككل، إضافة إلى دورها الملموس في توفير فرص العمل وتطوير البُنى التحتية؛ إلا أنها من جهة أخرى، قد تؤدي إلى بعض التداعيات الخطرة على البيئة، لاسيما عندما تعُوزها الإدارة السليمة، ما يؤدي في النهاية إلى تدمير الموائل، والضغط على الموارد الطبيعية. فالمسألة هنا تتداخل فيها مجموعة من العوامل والمؤثرات، فمثلاً هناك التوسع غير المدروس في بناء الفنادق والمنتجعات، وغيرها من هياكل معمارية تتعدى على الموائل الطبيعية، وتعطل من صيرورة النُّظم البيئية؛ وأيضاً الاستهلاك المفرط للمياه والطاقة والموارد، وما يرتبط بذلك من انبعاثات كربونية وإسهام في الاحترار العالمي، ناهيكم كذلك عن الكميات الكبيرة من النفايات والمخلفات التي تحتاج بحد ذاتها إلى مجهودات بشرية هائلة من أجل تنظيفها أولاً، ومن ثم إلى أنظمة شديدة التطور لإدارتها وتدويرها.

كل هذه الأمور وغيرها من العوامل لاشك في أن لها عواقب بيئية طويلة المدى، ولابد من أن تقود في النهاية إلى تدهور بيئي لا رجعة فيه؛ إلا أن المفرح في الأمر هو أن السياحة هي كمثيلاتها من القطاعات الاقتصادية الأخرى، مازالت لديها القدرة على لعب دور إيجابي وفعال، خصوصاً عندما تُدار بشكل مستدام ومسؤول؛ فمن خلال التخطيط المدروس والممارسات الواعية يمكن لصناعة السياحة، ليس فقط أن تلعب دوراً حيادياً فيما يخص البيئة والأوساط الحيوية، وإنما أن تسهم بشكل رئيس في حماية تلك البيئة وحفظ جميع المناطق الطبيعية المرتبطة بها.

ولا تغيب عن الذهن هنا المواقع الأثرية والثقافية التي لا تقل أهمية عن البيئة ومكوناتها، وذلك لما تختزنه في ثناياها من مكنونات اجتماعية وتراثية تعبّر عن الأصل والهوية والوجدان، كما تروي قصص الماضي بما فيه من حكمة وقوة وعنفوان؛ فالثقافة والطبيعة صنوان لا يفترقان، وتلاحمهما هو الحوار الأول الذي خاضه الإنسان منذ اللحظة الأولى لوجوده على هذا الكوكب.

وبكل تأكيد يبقى حجر الزاوية هنا تثقيف الناس وتوعيتهم، لاسيما زوار الأماكن السياحية وروادها؛ وعلينا باستمرار تذكيرهم بالمكانة العُظمى التي تحتلها النظم الطبيعية والكنوز الثقافية في ضمائر الشعوب؛ أي بعبارة أوضح علينا تعزيز الممارسات المستدامة لدى سائر فئات المجتمع بصورة عامة، ومن ثم الانتقال وتوجيه التركيز نحو الزوار والسائحين، من خلال تزويدهم بالمنصات التعليمية والإرشادية عبر مختلف الوسائل الرقمية والإعلامية، وتوظيفها بشكل فاعل في تعزيز فهمهم لكل من العالمَين، الطبيعي والثقافي، مع ضرورة إمدادهم أيضاً بزاد من الوعي حول القضايا البيئية كلها، الملحّ منها، أو تلك التي يُتوقع حدوثها في المستقبل القريب.

ولعل أكثر ما يُسعدني في هذا الشأن، هو ذاك الدرب المضيء الذي قطعته دولة الإمارات نحو السياحة المستدامة، الذي جعل منها قلعة شامخة تستسقي منها الأمم والشعوب، وتنهل منها يوماً بعد يوم قصص الاستدامة وحكايات المسؤولية البيئية؛ وما بالكم بأرض يتلاقى فيها الابتكار وسداد البصيرة، لينسُجا معاً قصة تفوّق بدأت من فوق الرمال، ولن تنتهي حتى ولو بلغت آفاق الثريا.

مؤسس سهيل للحلول الذكية

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

تويتر