التجربة اليابانية في الزراعة الذكية

محمد سالم آل علي

من خلال متابعتي الحثيثة للتطورات المتسارعة في الذكاء الاصطناعي، وكيف تتسابق الدول والشركات العالمية لتقديم الأفضل، استرعت انتباهي التجربة اليابانية في المجال الزراعي، وما يكتنفها من جهود جبارة تمت ومازالت في سبيل تطوير هذا القطاع الحيوي؛ ولعل الشيء الأهم الذي أثبتته تلك التجربة الرائدة هو أن الذكاء الاصطناعي الذي وُظّف فيها أتى فقط لتلبية احتياجات المجتمع المحلي، وليس لغايات أخرى كالاستغناء عن العمالة البشرية سعياً وراء جني الأرباح الكبيرة، أو حتى الرغبة الجامحة بالتطور العلمي بشكل مجرد.

لقد تنبهت الحكومة اليابانية، ومن خلال تحليلها للبيانات المختلفة، إلى أن ازدياد معدلات الشيخوخة في المجتمع الياباني أدى إلى انخفاض متزايد في عدد المزارعين اليابانيين بنسبة وصلت إلى 21%؛ ولأن اليابانيين كانوا ومازالوا أهل الاختراع والابتكار، فلم يتجهوا للحلول التقليدية كالتشجيع على الإنجاب للوصول إلى مجتمع ياباني فتي يرفد القطاع الزراعي، أو استيراد عمالة من دول أخرى لسد الحاجة وتعويض النقص، وإنما عمدوا إلى ابتكار أساليب زراعية جديدة تراعي مصالح الجميع، وذلك من خلال توظيف الذكاء الاصطناعي بطريقة خلاقة لا تؤثر في أعداد العمالة الحالية بقدر ما هي تغيير جذري يطال الطريقة التقليدية في الزراعة، أي الانتقال من زراعة تستند إلى خبرة وحدس المزارعين إلى زراعة متطورة أساسها البيانات.

وقد جاءت تلك الابتكارات الزراعية ضمن حزمة متكاملة من الحلول الريادية، فمثلاً تم ابتكار الزراعة الداخلية ضمن أبنية بالاعتماد على الضوء الصناعي، وتم البدء بالإنتاج اليومي للعديد من الخضار الطازجة بمعاونة الأجهزة الحساسة لقياس درجة الحرارة والرطوبة، وأيضاً تم اعتماد أنظمة متطورة لترشيد المياه وإدارتها وبالتالي تحقيق التوازن بين الإنتاجية والاستدامة البيئية؛ فالسمة المميزة للزراعة الذكية هي تخطيط وإدارة المحاصيل بشكل أفضل، واستخدام الذكاء الاصطناعي وصور الأقمار الاصطناعية لتحديد خصائص التربة ومراقبة تطور النبات ومن ثم تقدير الإنتاج.

ولا يقتصر الأمر على ذلك، فالزراعة الذكية لها من السمات الإضافية التي تجعل منها الحل المثالي لمواجهة تهديدات الأمن الغذائي، فهي أولاً تحقق النفع لكل من المزارعين ومجتمعاتهم من خلال زيادة الإنتاجية وتقوية الاقتصاد، كما أن ممارساتها الفعالة ستقود إلى جودة أعلى مع الحفاظ على اتساق الإنتاج ونموه من موسم إلى آخر، ناهيكم عن قدرتها على التحكم في بعض السمات والخصائص الوراثية للنباتات، مما سيمهد الطريق أمام تطوير منتجات زراعية جديدة ذات قابلية تسويق مرتفعة.

وعلى نهج تلك الخطى نجحت المنظمة القومية للبحوث الزراعية والغذائية هناك بتطوير منصة للتعاون في البيانات الزراعية، وهي تهتم بجمع وتنسيق جميع البيانات الزراعية المتناثرة هنا وهناك، سواء في المواقع الإلكترونية أو في قواعد البيانات المختلفة، ومن ثم توظيفها في خدمة المزارعين الراغبين بإدارة محاصيلهم، وعندها سيتمكن الجميع من الوصول إلى المعلومات ذات العلاقة بأقل التكاليف وأسرع الطرق.

أقول في الختام، إنه ومن خلال استعراضي لهذه التجربة الغنية، أبحرت في الكثير من المقالات التي تنشر يومياً، والتي ترصد الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته؛ وقد كانت جميعها تخلق نوعاً من المنافسة المبطّنة ما بين الإعجاب بهذا التطور المتسارع في مجال الذكاء الاصطناعي، وما بين التخوف منه والتوجس من تداعياته، وعلى الأخص دوره الرئيس في الاستغناء عن الآلاف من الكوادر البشرية المؤهلة وعالية الإنتاجية في ظل تحديات عالمية موجودة أصلاً، كالزيادة في معدلات البطالة وما يقابلها من سعي حثيث تقوم به الحكومات لإيجاد فرص عمل جديدة للجميع.

وبرأيي فإن التجربة اليابانية قد أتت لتقدم الحلول المناسبة لوضع قائم وراهن، وقد عملت على مواجهته وتحليله والخروج منه بواقع زراعي أفضل يستفيد من خبرات وإسه

امات المزارعين الحاليين ويمدّهم بأفضل الحلول التي توفر عليهم الوقت والجهد والموارد، وأيضاً تزيد من إنتاجيتهم وربحيتهم. إن هذه التجربة تفتح الباب واسعاً أمام العديد من الدول لتطبيقها والاستفادة منها في إدارة مواردها الطبيعية؛ فالذكاء الاصطناعي هنا ليس غاية بحد ذاته وإنما هو وسيلة أوجدها الإنسان لتقدم حلولاً لمشكلات قائمة أو وشيكة الحدوث.

مؤسس سهيل للحلول الذكية

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.

تويتر