العبودية الرقمية

محمد سالم آل علي

لا شك في أننا نشهد اليوم أكبر ثورة تكنولوجية في تاريخ البشرية، ولا شك أيضاً في أن هذه الثورة غيّرت وجه العالم وأسدلت عليه ستاراً رقمياً يحمل في ثناياه تغييرات جذرية تطال كل الحقول والقطاعات، فمن الاقتصاد إلى السياسة، ومن الثقافة إلى المجتمع، ومن التعليم إلى الأعمال، ووصولاً إلى كل شيء تقريباً بما في ذلك الفن والإبداع؛ والغريب أن كل ذلك حدث خلال برهة من الزمان، بل إنه في واقع الأمر قد بدأ للتو، وما تلك التغييرات الثورية الذي أذهلت الجميع إلا مقدمات لما سيأتي لاحقاً، أي ذاك القادم المستعجل الذي لا نعلم ما يحمله من مفاجآت.

بالطبع لا أقصد بالثورة الرقمية تقنية واحدة أو اثنتين، وإنما مجموعة كبيرة تضم كلاً من الذكاء الاصطناعي، والبيانات الضخمة، والحوسبة السحابية، وخوارزميات التعلم المتعمق والآلي، والأصول الرقمية، والشبكات العصبية، وتقنيات التعرف الذكية، وتقنيات الجيل الخامس، والحوسبة الكمومية، والطابعات ثلاثية الأبعاد، وغيرها الكثير من التقنيات والتطبيقات التي أصبحت تحيط بنا من كل جانب؛ فالهواتف المحمولة على سبيل المثال صارت أقرب إلى المرء من أمه وأبيه، فهي لا تنام قبل أن تطمئن بأن الجميع نيام، وهي أيضاً أول ما تراه العيون في الصباح، كما أنها تعرف عنّا من الخبايا ما لا يعلمه أحد سوانا.

فهل حان الوقت الذي نطوي فيه راياتنا ونسلمها للآلة؟

إذا استمرت الأمور على هذا المنوال فالآتي ليس واعداً، فالبشر محاطون بالكثير من التهديدات التي قد تؤثر في قرارهم وإرادتهم الحرة، ولعل أولها مسألة الإدمان على التطبيقات كوسائل التواصل الاجتماعي، أو الإدمان على الألعاب الإلكترونية ومقاطع الفيديو وغيرها من المرئيات، لأن هذه الأمور تستهلك حيزاً كبيراً من الحياة اليومية، وقد يدفع الانغماس فيها إلى إهمال الجوانب الحياتية الأهم كالعمل والإنتاج والترفيه والاسترخاء، إضافة إلى تآكل العلاقات الاجتماعية الحقيقية المبنية على التفاعلات الإنسانية؛ أمّا الأمر الثاني فيتمثل في الاعتماد المتزايد على التكنولوجيا إلى الحد الذي يعطّل العقل والتفكير، فلا الكتابة كما كانت، ولا القراءة ولا التعبير؛ والمثقف اليوم ليس من يكتنز المعارف والمعلومات، وإنما هو الأسرع وصولاً إلى الإنترنت ومحركات البحث؛ كما هناك جانب آخر لا يلحظه الكثيرون، وهو يتعلق بمشاركة المعلومات الشخصية في سبيل الوصول إلى الخدمات الرقمية، وهنا أقول لكم وداعاً للخصوصية، لأن جميع تلك البيانات، وإن كانت كما يُقال «في الحفظ والصون»، هي في واقع الأمر مخزنة في دهاليز وأروقة تنتظر استخدامها عند اللزوم، سواء كان ذلك من خلال حملات إعلانية ذات طابع استهدافي، أو من أجل غايات أخرى مجهولة الغرض والمقصد.

ولحسن الحظ هناك الكثير مما يمكن عمله لتدارك الأمر، كوضع ضوابط للاستخدام والحد من الوقت المستغرق بصحبة الوسائل الرقمية، لأن ذلك يكسر حلقة الإدمان ويفسح المجال لإعادة ضبط العقل وتصفية الذهن والعودة إلى النشاطات الطبيعية كالرياضة واللقاءات والزيارات والتأمل والتفكير والإبداع وممارسة الفنون؛ وطبعاً كل ذلك يجب أن يرافقه اتخاذ الخطوات المناسبة لحماية الخصوصية، وحصر مشاركة المعلومات الشخصية مع الجهات الموثوقة فقط.

ولكي أكون منصفاً لابد من الاعتراف بفضل العالم الرقمي ومنجزاته التي لا تُعد ولا تُحصى، فلم يحدث قط في تاريخ البشرية أن يتم الوصول إلى هذا القدر من التكنولوجيا في مثل هذا الوقت القصير، وبالتالي نحن محظوظون لمعايشة تلك المنجزات؛ وإذا كانت تأتي مع بعض المخاطر والتحديات، فما علينا سوى إدراك تلك المخاطر واتخاذ خطوات استباقية تضمن استمرارنا على قمة هذا الكوكب.

 مؤسس سهيل للحلول الذكية

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

تويتر