ساعة لقلبك وساعة لعقلك

د. كمال عبدالملك

أظهرت لي قراءاتي بالإنجليزية عن العلاقة بين الفلسفة والفكاهة أن بنية النكات وبنية المفاهيم الفلسفية مصنوعتان من المادة نفسها التي تتحدى العقل بطرق مماثلة. وذلك لأّنّ الفلسفة والنكات تنطلقان من الدافع نفسه: إرباك إحساسنا بالطريقة المعتادة والمألوفة، إن لم يكن قلب عوالمنا رأساً على عقب، وذلك قد يفضح حقائق مخفية، وغير مريحة في كثير من الأحيان، عن الحياة وطرائق البشر في التفكير والتصرف. ما يسميه الفيلسوف بصيرة، يسميه الكوميديان الساخر «قفشة». وهذه الحوارات الفلسفية الفكاهية يمكن أن نسميها «فيلوفكاهية» فهي تهدف إلى التعليم والترويح معاً على طريقة يمكن أن نسميها: «ساعة لقلبك وساعة لعقلك». وهذه هي الحلقة الأولى.

الفلسفة التجريبية: Empiricism

دعونا نبدأ بهذه النكتة الكلاسيكية التالية من نوادر جحا. ظاهرياً، يبدو الأمر مجرد بلاهة مضحكة، ولكن عند الفحص الدقيق، ندرك أنها تدخل في صميم الفلسفة التجريبية البريطانية لفلاسفة عصر التنوير في القرن 18 مثل جون لوك وديفيد هيوم وجورج بيركلي والتي تقول بأن كامل المعرفة الإنسانية تأتي بشكل رئيس عن طريق الحواس والخبرة، وتنكر وجود أي أفكار فطرية عند الإنسان أو أي معرفة سابقة للخبرة العملية، وتطرح السؤال: أي المعلومات عن العالم يمكننا الاعتماد عليها؟

طلب جار جحا استعارة حماره، ولم يكن جحا يريد أن يعطيه إياه، فقال لجاره: «معذرة، يا جاري العزيز، الحمار ليس هنا، فقد ذهب ابني به إلى السوق»، وما كاد يتم كلامه حتى ملأ الحمار البيت نهيقاً، فقال الجار: «أنت تكذب يا جحا.. أسمع بأذنيّ نهيق الحمار وتقول لي إنه في السوق؟» فرد جحا: «يا جاري العزيز أتصّدق الحمار ولا تصدّق جارك وصديقك جحا؟»

هنا يتحدى جحا مصداقية التجربة الواقعية الحسية، ويثير سؤالاً حول ماهية البيانات المؤكدة ولماذا نعتبرها مؤكدة؟ ماذا نصدق وعلام نستند لمعرفة الحقيقة في نادرة جحا: سماع نهيق الحمار أم عاطفة الصداقة ومبدأ حسن الجيرة؟

الفلسفة العاطفية: Emotivism

كتب الأستاذ عبدالعظيم، مدرّس الرياضيات، خطاباً لمصلحة الضرائب قال فيه إنه لا يستطيع النوم؛ لأنه غشّ مصلحة الضرائب في 9530 جنيهاً وهي قيمة دخله من الدروس الخصوصية وأن ضميره يعذّبه؛ ولذا أرفق شيكاً بقيمة المبلغ مع خطابه، ووعد المصلحة أنّه في حال عذّبه ضميره أكثر من اللازم ولم يستطع النوم بعد ذلك فسيرسل بقية قيمة الضرائب التي يجب أن يدفعها للمصلحة.

ما فعله الأستاذ عبدالعظيم يفضح فهمه أنّ الأحكام الأخلاقية ليست صواباً أو خطأ في حد ذاتها، وإنما هي مجرد تعبير عن شعوره نحوها وموافقته أو عدم موافقته على دفع الضرائب المستحقّة عليه، وموقفه الشعوري هذا يحيل إلى ما كان يعرف في منتصف القرن الـ20 بالفلسفة العاطفية (Emotivism) حين اتجهت معظم الفلسفة الأخلاقية إلى البحث عما وراء الأخلاق (Meta-ethical) فبدلاً من أن يسأل الفرد نفسه: ما هو تعريف الفعل الأخلاقي؟ أو ما الفعل الذي يمكن تسميته أخلاقياً؟ أصبح يسأل: ماذا نقصد عندما نسمي فعلاً من الأفعال أخلاقياً؟ هل عبارة: «هذا العمل أخلاقي» تعني أنني أوافق عليه أو أنتفع بنتائجه؟ أو أنّ الحكم على عمل معين يعتمد على مَنْ قام بهذا العمل فهو عمل أخلاقي إن كان الفاعل صديقي وعمل غير شريف إن قام به عدوي؟

هذا الموقف هو ما أطلق عليه فلاسفة الغرب «الفلسفة العاطفية». وللحديث بقية.

باحث زائر في جامعة هارفارد

 لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

تويتر