شك العارفين

الدكتور علاء جراد

تناول مقال الأسبوع الماضي ظاهرة أو آفة الأشخاص الذي يبالغون في تقدير ذاتهم، ولا يدركون أنهم غير مؤهلين، ويتبجحون بكل ثقة معتقدين أنهم الأفضل. واليوم يتحدث المقال عن النقيض من هذه الظاهرة، وهي متلازمة نفسية تصيب النساء والرجال على السواء، مع أنه في الماضي كان يعتقد أنها تنتشر أكثر لدى النساء، من لديهم هذه المتلازمة لا يقنعون أبداً بإنجازاتهم، ولديهم قناعة بأن ما يقومون به ليس بالكثير وأنه أمر بسيط جداً، على الرغم من أنه قد يكون عملاً عبقرياً ولا يستطيع سوى عدد قليل من الناس إنجازه، بل يتطور الأمر بهؤلاء لأن يصبح عندهم شك في أنهم لا يستحقون هذا النجاح، وأن الناس ربما تعتقد أنهم محتالون، ويبدو كما لو أن هناك صوتاً بداخلهم يقول لهم إنكم غير مؤهلين، وإن النجاح هذا جاء بالحظ أو الاحتيال، وهم يستمعون لهذا الصوت ويصدقونه في معظم الأحيان، ولذلك عندما وضع إطار نظري وعلمي لتلك المتلازمة على يد العالمتين «بولين كلانس» و«سوزان إيمس» عام 1978، أُطلق عليها اسم متلازمة المحتال أو Imposter Syndrome، حيث إن الشخص نفسه صاحب الإنجازات يشعر بأنه محتال، وأن هذا النجاح كان مجرد حظ.

عندما كنت بالمرحلة الثانوية كان لي صديق (ولايزال) يعتبر الأول في كل المواد، وما كنا نتعثر نحن فيه ونجتهد بالساعات لحله، خصوصاً في الرياضيات والفيزياء، كان هو بمجرد نظرة فاحصة للمسألة يقوم بحلها في دقيقتين وبمنتهى السلاسة، وفي اختبارات الصف الثالث الثانوي الذي تتحدد بناء على نتيجته، الكلية التي سنلتحق بها، صدمنا جميعاً بتغيبه، وكان السبب أنه يعتقد أنه غير مستعد للامتحان ولن يستطيع النجاح. للأسف تكرر الأمر معه لعامين، وفي النهاية قام بحضور الاختبارات وحصل على مجموع مرتفع، ثم تكرر معه الأمر نفسه في الجامعة، وكنت أتعجب من أمره، وكان البعض يرجعه إلى «العين» أو الحسد، لكن الآن أستطيع أن أربط بين حالة صديقي وتلك المتلازمة اللعينة التي قد تسلبنا الإحساس بالنجاح والسعادة، بل قد تقف عائقاً أمام إكمال مسيرتنا العملية أو الأكاديمية أو الاجتماعية.

إن الاعتدال فضيلة وخير الأمور أوسطها، لذلك من المهم أن نتعلم كيف نقيّم أنفسنا وبموضوعية، فلا نبالغ في تقدير الذات ولا نسرف في جلدها أيضاً أو التقليل من شأن أنفسنا، ويعجبني هنا معظم الناس في الغرب في هذه الناحية تحديداً، فالشخص بصفة عامة يدرك ما هو متمكن فيه ويقدّر قيمة نفسه دون مبالغة، وينعكس ذلك في الأجر الذي يطلبه مقابل عمله، كما لا يجدون غضاضة في الاعتراف بأن هذا الموضوع ليس في تخصصهم ويرشحون شخصاً آخر. إن الموضوعية في هذا الأمر شيء في غاية الأهمية، ويلعب نظام التعليم وكذلك المجتمع والأهل دوراً كبيراً في غرس الأنماط السلوكية والسمات الشخصية المعتدلة في الإنسان منذ الصغر.

لحسن الحظ هناك الكثير من الاختبارات النفسية المحكمة والموثوقة التي يمكن أن تساعدنا في معرفة أنفسنا، كما يمكن أن يلعب الأصدقاء المخلصون دوراً كبيراً في أن يكونوا مرآة لنا لنعرف أنفسنا، فنبتعد عن ثقة الجاهلين وكذلك شك العارفين.

@Alaa_Garad

Garad@alaagarad.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.  

 

تويتر