مقال

خمس فوائد

محمد سالم آل علي

يعود تدوين الرحلات إلى المراحل الأولى من وجود الإنسان على هذه الأرض، حيث تجلى في مراحله الأولى بشكل رسومات ونقوش تصور رحلات الصيد البدائية، وما تنطوي عليه من أساليب ومهارات، ثم توسع محتواه، بعد أن بدأ البشر يسافرون إلى ما وراء مجتمعاتهم لإشباع فضولهم ورغبتهم في الاستكشاف؛ ومع اختراع الكتابة بدأ هذا الفن بالنمو تدريجياً، ليتحول بداية إلى قصص وحكايات يرويها المسافر عن تجاربه في الأسفار، ثم إلى أعمال مكتوبة، تتشابك فيها تجاربه وملاحظاته، وأيضاً انطباعاته المباشرة عن كل ما يشاهد ويسمع، ليُسهم بشكل عفوي في نقل القيم الثقافية وتداولها بين المجتمعات.

ولعل التاريخ يحفل بالعديد من الرحالة والمدونين، بدءاً من الإغريق، مثل هيرودوت وبطليموس وسترابو، الذين طافوا البلاد، وجمعوا المعلومات، وأبلغوا عن رحلاتهم في مصر وفارس وآسيا الوسطى، إضافة إلى عالم البحر المتوسط؛ ومروراً بابن بطوطة، وكتابه «تحفة النُظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار»، الذي جاء بعد رحلة 27 سنة قضاها يطوف بلاد المغرب ومصر والشام والحجاز، إضافة إلى زياراته لآسيا الوسطى والصين وإفريقيا جنوب الصحراء.

لا شك أن العصر الرقمي الذي نعايشه اليوم أعاد تعريف تجربة المسافر بالكامل، حيث أصبحت أدلة السفر والخرائط المطبوعة فكرة قديمة لا يعتد بها عند التخطيط للرحلات، فالعالم في تغير سريع غير مسبوق، والإنترنت حوّل الجميع من مجرد باحثين عن المعلومات إلى مبتكرين وصانعين لها، بل إنه خلق لهم فرصاً مواتية لمشاركة المحتوى بسهولة ويسر، بغض النظر عن الاختلافات الاجتماعية والثقافية أو تلك المكانية والجغرافية، فالطبيعة التجريبية للسياحة أفسحت المجال واسعاً أمام السياح والراغبين في السفر للتعلم من تجارب الآخرين، والاسترشاد بها عند الاختيار، كما أنها أتاحت لهم فرصة الاطلاع على العديد من الوجهات الرائعة والجديدة التي غابت عنهم أو فاتتهم مراراً عند زيارتهم السابقة.

طبعاً إن تحولات كهذه تأتي مع حزمة من التحديات، أهمها المسؤولية والحيادية وصدقية المحتوى؛ فنحن هنا لا نتحدث عن كتابات ترويجية مدفوعة الثمن، أو إعلانات عن أماكن ومقاصد هنا وهناك، وإنما عن محتوى افتراضي كامل، يُنشئه المدونون من خلال خبرتهم وتجربتهم المباشرة، ويغنونه بمخزون سخي من المعلومات المرجعية والصور التوثيقية، وأيضاً بمقاطع الفيديو وبعض المقابلات التخصصية، وعندها فقط سننجح في تحويل التجربة السياحية إلى سوق افتراضي ومفتوح للخبرات، ينشر المعارف، ويستطلع التجارب، ويساعد حتماً على اتخاذ القرارات.

وللنجاح في هذا المسعى، وتحقيق أفضل النتائج، لابد من أن يُشكل عدد «الباحثين السائحين» النسبة الأكبر من أعداد المسافرين، أي يجب أن يبدأ الجميع كل بنفسه، فمن يسافر اليوم إلى مكان ما لأغراض سياحية، أو حتى تجارية وثقافية، عليه أن يجمع ما أمكنه من معلومات وبيانات حسب اهتمامه، ثم يحولها إلى مواد مكتوبة ومرئية ومسموعة، ينشرها عبر القنوات الرقمية، حتى تكون متاحة أمام جميع الناس.

ومن يدري، ومع بزوغ عالم البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي، قد تأتينا برمجيات متطورة، تبحر في فضاء افتراضي ثلاثي الأبعاد، وتحاكي العالم الحقيقي، فمن أراد زيارة الآثار، عاش تجربتها، وطاف جنباتها، متعرفاً إلى تاريخها الموثوق، ومن أراد المتاحف شاهدها مرئية أمامه، وعاين أجمل المعروضات، ومن أراد التنزه في الطبيعة، رآها أمامه بحفيف أشجارها، وزقزقة عصافيرها، ومن أراد سياحة المدن جالها كلها، وسار في طرقاتها وأزقتها، مستطلعاً كل ما يهمه فيها من مطاعم وفنادق ومعالم ومواقع تذكارية، وأيضاً أماكن التسوق والترفيه.

مؤسس سهيل للحلول الذكية 

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.  

تويتر