نظرات في الانسحاب الهادئ والتعلّم الجماعي

د. كمال عبدالملك

شارف صديق لي على التقاعد بعد عقود من العمل الأكاديمي، وبدأ يعدّ كتاباً يحوي تفاصيل حياته. كان يدرك أنّ أكثر ما تكون السيرة جذّابة هي التي يسجّلها صاحبُها، ويقرأ الناس فيها سجلاً حافلاً لحياةِ صاحبها المديدة، وتجاربه الإنسانيّة العديدة.

ووقر عزمه على الاستمرار في العمل الأكاديمي حتى نهاية تعاقده مع الجامعة. كان يدرّس في النهار، ويكتب سيرته الذاتية بعد عتمة المساء، أخبرني أنّه يجد صعوبة في أن يكتب سيرته في وضح النهار، ويفسر ذلك بأنّ ثمة شيئاً يتعلق بأشعة الشمس يتعارض مع الإبداع؛ ويجعله يكتب في عتمة المساء عندما يغمر الدنيا ضوء القمر.

«عندي شعور بأن ثقافتنا العربية الأصيلة هي ثقافة قمرية، وأجدني أكتب بشكل أفضل بعد غروب الشمس، وعندما أكون على مرأى من البحر».. قالها مبتسماً.

أضاف أنّه في أثناء حياته الأكاديمية درس خمس لغات، لم يجد في أي منها هذا الملمح الطريف الذي يميز لغتنا العربية: وجود حروف شمسية وحروف قمرية. ولديه شعور بأن الثقافة الغربية هي ثقافة شمسية، لكنه لا يعرف السبب.

وجاءت جائحة الكورونا، وتبعتها تحولات الفيروس الشرس، وألفى نفسه مثل كثيرين، يفكّر كثيراً في «الانسحاب الهادئ» من الوظيفة والحياة العامة. وفي حين أن هناك العديد من التفسيرات لما يعنيه هذا، وكيف بدأ، إلا أنه في جوهره رد فعل مفهوم لحالة العزلة والإرهاق التي كان يعانيها على مدار العامين ونصف العام الماضيين.

ومثل صديقي هذا يشعر بعض الناس حولي بالعزلة، ويريدون أن يروا من يقدّر إنجازاتهم وإسهاماتهم، ومن يبدي ثقته واحترامه لذواتهم ولأعمالهم، ولكنهم في الوقت نفسه يريدون أيضاً الحفاظ على التواصل مع الآخرين، والشعور بالانتماء. يقول بعضهم إنّ الاتصال بالناس هو المطلوب في اللحظة الحالية. لكن الاتصال الحقيقي يعني أكثر من ساعة سعيدة للحديث مع الأصدقاء والاستمتاع بارتشاف فنجان قهوة معهم. إن استكشاف وجهات نظر مختلفة، وخبرات مشتركة - حتى الألم المشترك - يجمع الناس معاً، ويساعدهم على الشعور بأنهم جزء من شيء أكبر من أنفسهم.

سألني: «كيف يمكن تحقيق ذلك؟».

أجبته بأنّنا كأفراد يمكن أن نحقق ذلك من خلال تخصيص الوقت والمساحة للتعلّم معاً، فالتعلّم الجماعي التفاعلي الجاد يذكّرنا أننا لسنا وحدنا، ويفتح عقولنا على الأفكار الجديدة.

دعوته للاشتراك في صالون أدبي في أحد المقاهي في القاهرة، حيث تقابل مع أشخاص جدد، وتجاذب معهم أطراف الحديث وتعرّف إلى طريقة تفكيرهم.

لاشك في أنّ التعلّم معاً بقراءة الكتب ومناقشتها يعمّق قدرتنا على التعاطف. إنه منشّط مهم لعلاج حالة العزلة وعدم اليقين التي نعيشها هذه الأيام.

الخبر السار هو أن مهارة التعاطف قابلة للتعلّم، وقادرة أن تقلّل من مشاعر الإرهاق لدينا، وتزيد من إحساسنا بالانتماء وتعميق علاقتنا بالبشر حولنا، وعندها قد تبدأ الرغبة في «الانسحاب بهدوء» في التلاشي.

إذا فعلنا ذلك فسيكون العالم مكاناً أفضل.

باحث زائر في جامعة هارفارد 

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.  

تويتر