الكذّابون في العصر الرقمي

محمد سالم آل علي

قد لا يعلم الكثير منا بأن الشائعات والأخبار الكاذبة ليست ظاهرة جديدة على العالم، بل إنها من القدم بحيث يمكننا تتبع أثرها إلى القرن الأول قبل الميلاد، وذلك حين قام أوكتافيان، الذي أصبح لاحقاً - أغسطس قيصر - الإمبراطور الروماني الأول، بترويج أخبار كاذبة بغية الانفراد بالسلطة والقضاء على خصمه آنذاك، مارك أنطوني؛ وقد نجح فعلاً في ما أراد، خصوصاً أنه في ذلك الوقت لم تكن هناك طريقة للتحقق من صحة الأخبار، ما ساعد على انتشارها بين مختلف الفئات الاجتماعية من مثقفين وسياسيين وجنود وعامة الناس.

ولا تختلف الحال اليوم عما كان في الماضي، خصوصاً مع ظهور الإنترنت والمنصات الرقمية، إلا أن الانتشار الواسع للمعلومات الكاذبة على وسائل التواصل الاجتماعي أصبح خطراً عالمياً يؤثر ضمنياً على الرأي العام، ويهدد التنمية الاجتماعية والاقتصادية لمختلف دول العالم.

وحتى نكون منصفين يجب علينا ألّا نضع كل الأخبار الكاذبة في خانة واحدة، لأنها في الواقع مقسمة إلى فئات وأنواع، وأولها هي المعلومات الخاطئة التي يُنشئها بعض الناس دون غرض الخداع والتضليل، وإنما عن قصور بالمعرفة، أو يمكن تعبيراً منهم عن آرائهم الشخصية البحتة التي تصف الأحوال وتفسر الظواهر تبعاً للأمزجة والأهواء؛ وهي هنا سهلة التحقق لكل من شاء وأراد، لأنها تتعارض مع العديد من الحقائق الأساسية والمطلقة، لكنها قد تحمل أحياناً بعض المخاطر في حال تكرار سماعها وتداولها، لأنها ستصبح مألوفة حينها وأكثر قابلية للتصديق.

وهناك الأخبار التي تُختلق سعياً وراء أموال الإعلانات، وما أكثرها في هذه الأيام، حيث يعتمد منشئوها استراتيجية خلط المقالات الإخبارية بالدعائية، أو إنشاء مواقع تَنسخ محتوى مواقع شهيرة ومعتبرة، ما يدفع الناس لتصديقها ومشاركتها؛ وبمجرد انتشارها سريعاً فإنها تقود حركة المرور إلى مواقعهم أو صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، وهكذا يُسهم الجميع عن غير قصد بملء جيوب هؤلاء المتاجرين.

أما الفئة الأخطر فتتمثل بالمحتوى الإلكتروني المشبوه الذي يُصمم عمداً بغرض التضليل وخدمةً لنوايا وسياسات معينة هدفها الإضرار بدولة ما والإساءة إلى رموزها، أو النيل من اقتصادها ومسيرتها التنموية؛ وللأسف فإن هذه الفئة وجدت حاضنتها المثالية بالعالم الافتراضي، خصوصاً بعد أن صارت وسائل التواصل الاجتماعي مصدراً رئيساً للأخبار بالنسبة إلى نحو 50% من سكان العالم حسب آخر الإحصاءات.

واللافت أن تنامي ظاهرة الأخبار الكاذبة طغى بتأثيره على المعلومات الحقيقية والأخبار ذات الصدقية، وبات الكثير من الناس يؤمنون بنظريات المؤامرة، ويشككون بكل ما يقرأونه أو يسمعونه حتى في أصدق القنوات الإخبارية، ولعلكم تذكرون حجم الأخبار الكاذبة التي روّجتها المنصات الاجتماعية أثناء جائحة «كوفيد-19»، والتي كانت بحد ذاتها وباءً فوق وباء.

أعلم أن الحل يكمن في تغيير مفهوم القبول المجتمعي وحثه أولاً وأخيراً على فحص الحقائق والتيقّن من الأخبار، وذلك من خلال برامج التوعية المجتمعية عموماً، وتفعيل دور المدارس والجامعات في تعزيز مهارات التفكير النقدي لدى الناشئة على وجه الخصوص، لكن تبقى منصات التواصل الاجتماعي متقدمة علينا بخطوة لأنها تُسهّل انتشار الخرافات والأخبار المزيفة بسرعات قياسية لا تُجارى، فنحن اليوم نواجه خوارزميات تعتمد التفاعل والنقرات، ولا سبيل سوى مجابهتها بخوارزميات ونظم متطورة من الذكاء الاصطناعي تتحقق من الحسابات وتفحص المحتوى فورياً وعلى مدار اللحظات؛ وتلك مهمة إلزامية مطلوبة من القائمين على تلك المنصات، وذلك لأن بعض الناس، شئنا أم أبينا، سيصدقون ما يريدون تصديقه حتى ولو كان لا يُعقل على الإطلاق!

مؤسّس «سهيل للحلول الذكية»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.

تويتر