5 دقائق

الثقافة تلتهم الاستراتيجية

الدكتور علاء جراد

مع مرور الوقت والاعتراف بأهمية التخطيط ووضع استراتيجيات فعّالة في مختلف القطاعات، أصبح من النادر عدم وجود استراتيجية لدى مؤسسات الأعمال والدوائر الحكومية، وكذلك مؤسسات المجتمع المدني، حتى ولو لم تكن الاستراتيجية قد تم إعدادها بالصورة المطلوبة، ولكن الحقيقة التي تغفلها 99% من المؤسسات – من وجهة نظري – هي أهمية الموروث الفكري والقناعات والتوجهات القائمة، بل والمتجذرة داخل المؤسسة، ومجمل القناعات والتوجهات والعادات والتقاليد المؤسسية هو ما نطلق عليه الثقافة المؤسسية، وهي بمثابة البرمجيات (السوفت وير) في جهاز الكمبيوتر، فهل يمكن أن يعمل أي جهاز كمبيوتر معتمداً على المكونات الخارجية فقط (الهاردوير) بالطبع لا، لذلك فالثقافة المؤسسية وحدها كافية بتدمير أي استراتيجية وعدم تطبيقها، وقد لخص ذلك فقيه وعلاّمة الإدارة الحديثة، بيتر دراكر، حين قال: «الثقافة تلتهم الاستراتيجية في وجبة الإفطار»، أي أنه لن تثابر الاستراتيجية لبعض الوقت قبل أن تؤتي عليها الثقافة المؤسسية.

بالطبع المقصود في مقولة دراكر هي الثقافة المؤسسية السيئة والسامة، وإلا فإن الثقافة الصحية أحد عوامل النجاح الرئيسة لأي استراتيجية، بل لأي مبادرة تحسين، ومن أنماط أو سمات الثقافات الصحية في المؤسسات، التحسين المستمر، أي أن الجميع يسعى لتطوير الأداء بصفة مستمرة وفي إطار سعي وعمل حقيقي وليس من أجل الظهور أو البروباجندا الفارغة، وأيضاً من سماتها السعي الدائم نحو التعلم وتجذير ثقافة التعلم من الأخطاء ومكافأة التعلم، منها أيضاً الاستماع الى كل المعنيين، سواء موظفين أو متعاملين أو شركاء أو المجتمع، ومنها اجتثاث ثقافة اللوم، والكثير من السمات الأخرى. أما بعض صفات الثقافة السامة التي تؤدي لتفريغ المؤسسة من الكفاءات الحقيقية وبقاء المنافقين وقليلي العمل، بل وغير المؤهلين، فيمكن ابراز أهمها في انتشار الشائعات، وغياب قنوات موثوقة لتبادل المعلومات، ووجود مراكز قوى وشللية، وعدم وضوح معايير الأداء، وكثرة النفاق وإظهار الولاء، وغياب الشفافية، واتخاذ قرارات مفاجئة وغير مدروسة، وزيادة معدل الاستقالات، وعدم وجود مستهدفات واضحة وموثقة، والجمود الفكري وعدم تقبل الأفكار الجديدة، ومحاولة تثبيط أي مقترحات، وسرقة الأفكار، وانتشار ثقافة اللوم والخوف، وتجذير المركزية وعدم تفويض الصلاحيات أو تمكين العاملين، والكثير من السمات الأخرى الكفيلة بتدني الإنتاجية، وخفض الروح المعنوية للعاملين.

السؤال الآن، هل يمكن تغيير الثقافة المؤسسية وتحويلها إلى ثقافة صحية إيجابية تشجع على التميز والتحسين المستمر، الإجابة السريعة «نعم» يمكن ذلك، ولكن باتباع الأساليب العلمية والطرق المجربة التي تبدأ بقياس الثقافة الحالية بالاستناد إلى نماذج موثوق بها وأدوات ثبت نجاحها، وهي متاحة وتكاد تكون بالمجان، والاستراتيجيون الناجحون ومستشرفو المستقبل هم هؤلاء القادة الذين لديهم الصبر و«النفس الطويل» للتحول الفكري والفلسفي وخلق وتشجيع أنماط فكرية جديدة في المؤسسة، قبل أن يسعوا للتحول الرقمي والذكاء الاصطناعي والجيل الخامس وكل المصطلحات الرنانة التي يرددها القادة والتنفيذيون هذه الأيام، لن يحدث أي تحول من أي نوع من دون التحول الثقافي أولاً، فالناس تغيّر أفعالها في حالتين، إما بعد أن تغيّر قناعاتها أو أن تكون مُجبرة على التغيير، وقد ثبتت فاعلية الخيار الأول واستدامته مقارنة بالخيار الثاني.

• الحقيقة التي تغفلها 99% من المؤسسات - من وجهة نظري - هي أهمية الموروث الفكري والقناعات والتوجهات القائمة، بل والمتجذرة داخل المؤسسة.

@Alaa_Garad

Garad@alaagarad.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

تويتر