5 دقائق

انهيار الحضارة الرقمية

محمد سالم آل علي

استوقفني خبر تداولته وكالات الأنباء، أخيراً، حول عاصفة شمسية ضربت الأرض، وأدت إلى تقلبات طفيفة في شبكات الطاقة ووظائف الأقمار الاصطناعية، بما في ذلك الهواتف المحمولة وأنظمة التموضع العالمي (GPS)؛ إلا أنها كانت ضعيفة ومحدودة التأثير، فما من تداعيات لها، ولا تبعات أيضاً ولا عواقب.

وما إن انتهيت من القراءة حتى بدأت أبحث حول الرياح الشمسية بصفتها تيارات ضخمة من الجسيمات المشحونة (البلازما) تشقّ طريقها نحو الأرض، وتتحول عند اصطدامها بالمجال المغناطيسي إلى وابلٍ من العواصف المغناطيسية الأرضية تتفاوت شدتها حسب الدورة الشمسية وتوهجاتها الإكليلية؛ وقد علمت أنها ليست بالشيء الجديد، وإنما ظاهرة متكررة رصدها الناس منذ مئات السنين، سواء من خلال مراقبتهم للشفق القطبي أو عبر متابعتهم لأعداد البقع الشمسية؛ إلا أن ما شغل البال ولم يزل هو ذاك الضرر الذي يمكن أن تتسبب به في حال اشتدت وعَظُمت تدفقاتها، خصوصاً بعد أن قرأت عن «حدث كارينغتون» عام 1859، الذي يُعد أكبر عاصفة شمسية رُصدت خلال التاريخ المعاصر، وأدت في ما أدت إلى توقف أنظمة التلغراف في جميع أنحاء العالم، بينما تلألأت بسببها أضواء الشمال وصولاً حتى العروض المدارية!

تخيلوا معي إذاً ما سيكون عليه الوضع إذا صدقت توقعات وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) حول وجود احتمال نسبته 12% لوقوع حدث شبيه بـ«كارينغتون» في غضون السنوات العشر المقبلة؛ بل دعونا نذهب أبعد من ذلك ونتصور حدثاً أقوى وأشد، أي عاصفة شمسية يكون بمقدورها تعطيل المجال المغناطيسي لكوكبنا وإيقاف عمل جميع الأجهزة والمعدات، بما في ذلك الأقمار الاصطناعية والطائرات وكل المركبات، وأيضاً شبكات الاتصال والكهرباء وما نتغنى به دوماً من رقمنة وذكاء اصطناعي.

طبعاً تساورني بعض الفكاهة في ذلك، فالتواصل الاجتماعي سيبقى مستمراً وإنما بوسائل مختلفة كالأقباس وإشارات الدخان؛ والتراسل سيظل أيضاً سوى أنه عبر الحمام الزاجل وصيحات النداء والتصفير؛ والأسفار بدورها لن تتأثر كثيراً مع وجود العربات والرواحل؛ أما الإنترنت فسيُستعاض عنه حتماً بالقصص والملاحم وحكايات الجدّات.

بالعودة إلى الواقع أرى أن الأمر شديد التعقيد، فالنشاط الشمسي عموماً لايزال قيد البحث والدراسة، ومازلنا حتى اليوم بعيدين كل البعد عن التنبؤ به والتكهن بتوهجاته، كما أن تلك الاندفاعات، وإن كنا نستطيع رصدها وتتبّعها، فإنها تستغرق بضع ساعات فقط للوصول إلى الأرض، وهذا ما يحدّ من قدرتنا على اتخاذ أي تدابير؛ ولعلّ جلّ ما يؤرّقنا هنا ليس فقدان أسلوب حياتنا الحالي، وإنما المعرفة البشرية المتراكمة التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه؛ هذه المعرفة التي نحتفظ بها اليوم على شكل بيانات رقمية مخزنة هنا وهناك، وهي عرضة للزوال أو التلف بلمح البصر ودون أي سابق إنذار.

ولحسن الحظ فقد بدأ البعض فعلاً بالتنبه لذاك الأمر، ولعلكم سمعتم عن مشروع الاحتفاظ بنسخ احتياطية من المعارف البشرية في الفضاء، أو عن المكتبة القمرية المصنوعة من أقراص معدن النيكل، التي تحمل صوراً مجهرية عالية الدقة لشتى صفحات الكتب والمؤلفات؛ إلا أن الأهم هي التقنيات الواعدة للتخزين على الحمض النووي (DNA)، هذه التقنيات التي تحتاج منّا كل البذل والاهتمام، لاسيما أن غراماً واحداً من الحمض النووي باستطاعته تخزين ما يعادل 215 مليون غيغابايت من البيانات، وهو ذو ديمومة وبقاء بدلالة العديد من عيّناته السليمة التي عُثر عليها في المتحجرات، ما سيجعله مستقبلاً المادة المثالية للتخزين، وقد يأتي منها كل الأمل والتطمين.

مؤسس «سهيل للحلول الذكية» 

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

تويتر