شرق.. غرب

تأمّلات في النوم والأرق

د. كمال عبدالملك

ليسامحني القرّاء، فسأحادثهم عن موضوع يؤرّقني هذا الصباح.

ليالٍ متتالية مضت وأنا أعاني الأرق.. أضحيت واحداً من ضحايا الأرق الذي يميز الحضارة الحديثة. تذكر الإحصاءات أنّ أكثر من ربع سكان المدن الكبرى، مثل نيويورك، لا يستطيعون أن يناموا بلا دواء منوّم، وبعضهم فقد القدرة على النوم الطبيعي. انقلب ميزان الوقت عندي، فكنت أغفو في النهار، وأصحو في منتصف الليل، وأدركت ألا أمل لي في الحصول على أي قسط من الراحة. حاولت مراراً أن أنام في الليل كما تنام الخلائق، كي أنعم بمتعة النوم في الليل، وفرحة اليقظة في النهار.. ولم أفلح.

كانت لنا قريبة، أم لأولاد، تنصح الناس بأن يتريثوا في الإنجاب إلا إذا كانوا على استعداد أن يقضوا خمس سنوات - على الأقل - يعانون النوم غير المنتظم، وكنا نضحك، معتبرين أنّها مبالغة (بكسر اللام) في نصيحتها، حتى حبانا الله بالبنات؛ ما إن تنقضي السنوات الخمس مع الواحدة حتى تأتي الأخرى، فنبدأ في العدّ من البداية، وهكذا، حتى تعوّدنا على نوم التقسيط، وليس نوم الجملة.

النوم والأرق والحبّ ثيمات متشابكة في أدبنا، وفي الآداب الغربية، وعند شعراء الرومانسية الإنجليز، مثل ويليام وردزورث (ت.1797) في قصيدة بعنوان «النوم»، فقد كان مثل غيره من المصابين بالأرق، غالباً ما يتصور النوم محبوبة متمرّدة، متمنعة، بعيدة المنال، وهو يجسّد النوم في القصيدة، ويخاطبه باعتباره مصدر الصحة الجيدة، والأفكار الجديدة، والراحة التي يحتاجها أثناء الليل ليستمتع ببركات النهار.

وللشاعر الإنجليزي الرومانسي جون كيتس (ت.1821) قصيدة مماثلة، عنوانها النوم أيضاً، يعبّر فيها بغنائية لافتة عن رغبته في النوم، ويتماثل النوم عنده كمكان للعافية والهدوء، مقارنة بضوضاء النهار ومتاعبه.

أما المسكين فرانز كافكا (ت. 1924) فكان طوال حياته الإبداعية يعاني الأرق، وكانت الهلوسة التي نشأت عن قلّة نومه تشكّل جزءاً كبيراً من كتاباته، ولربما يمكننا قراءة روايته الشهيرة «المسخ» كاستعارة للتأثيرات السيئة للأرق.

كتبت مرة في دفتر مذكراتي تأملات عن النوم، بعضها من قراءات سابقة، وبعضها من نسج الخيال، ومنها: النوم سلطان. أنت نائم فأنت سلطان نفسك. نِعم النوم عديدة: أنت نائم يعني أنك على قيد الحياة، لكن بلا متاعب الحياة. أنت نائم يعني أنك على قيد الحياة في موت مجازي قبل الوصول إلى تخوم العالم الآخر والنوم الأبدي.

والنوم هو ملء الجسد بالهدوء وراحة البال، وتفريغ العقل من الخوف والحزن. والنوم والموت من عائلة واحدة، كما في أساطير اليونان القديمة، نقرأ فيها أنّ إله النوم اليوناني هو هيبنوس Hypnos، وننسى أنه شقيق الموت Thanatos، فهل النوم موت قصير أم الموت سبات طويل؟

يرتبط النوم بالموت، ليس فقط بعرى القرابة، بل أيضاً بوشائج المعاني: نام، ينام، نوماً، واسم المكان المشتق من الجذر هو «منامة» التي تعني القبر، حيث يسجى جسد الإنسان ليبدأ رحلة النوم الأبدي.

لا يشيخ النائم في النوم. لا يخاف ولا يسمع نبأ يضغط على سويداء قلبه...

النوم هو عرض سينمائي للمعنى، استكشاف لبحر الظلمات المحيط بك، جولات، بلا مرشد، في معارف اللاوعي التي تتاخم غمامات السحب وأبخرة الأوقيانوس.

النائمون متساوون، على الرغم من اختلاف الأسرّة (جمع سرير)، والأسرار، ولكن الاستيقاظ يقسّم النائمين، ويجرّهم إلى الحروب والصراعات.. إذا نام العالم أكثر، فستقلّ الانقسامات، وتخفت الصراعات، ويعم البشرية الوئام.

•  باحث زائر في جامعة هارفارد

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.  

تويتر