5 دقائق

تأملات في العلاقة بين الفلسفة والفكاهة

د. كمال عبدالملك

أظهرت لي قراءاتي بالإنجليزية في العلاقة بين الفلسفة والفكاهة أن بنية النكات وبنية المفاهيم الفلسفية مصنوعتان من المادة نفسها، فكل واحدة منهما تتحدى العقل بطرق مماثلة. وذلك لأنّ الفلسفة والنكات تنطلقان من الدافع نفسه، وتتجهان نحو الغاية نفسها: إرباك إحساسنا بالطريقة المعتادة التي تسير بها الأمور، وقلب عوالمنا رأساً على عقب، وكشف حقائق مخفية، وغير مريحة في كثير من الأحيان، عن الحياة وطرائق البشر في التفكير والتصرف. ما يسميه الفيلسوف الجاد استنتاجاً منطقياً يسميه الكوميديان الساخر «قفشة». وهذه الحوارات الفلسفية/ الفكاهية يمكن أن نسميها «فيلو- فكاهية»، هدفها التعليم والترويح معاً، على طريقة ساعة لقلبك وساعة لعقلك.

الفلسفة التجريبية

دعونا نبدأ بهذه النكتة الكلاسيكية التالية من نوادر جحا. ظاهرياً، يبدو الأمر مجرد بلاهة مضحكة، ولكن عند الفحص الدقيق، ندرك أنها تدخل في صميم الفلسفة التجريبية البريطانية، التي تطرح السؤال: أي معلومات يمكننا الاعتماد عليها؟

طلب جار جحا استعارة حماره لمشوار، فرد جحا كاذباً: آسف يا جاري العزيز، كان بودّي ولكن الحمار ليس هنا، فقد ذهب ابني بالحمار إلى السوق، وما كاد جحا يتم كلامه حتى ملأ الحمار البيت نهيقاً، فقال الجار: أنت تكذب يا جحا؛ أنا أسمع الحمار يملأ البيت نهيقاً، فكيف تقول إنه في السوق؟ فرد جحا: ماذا تقول يا جاري العزيز؟ أكن لك المودة وأمد لك يد العون وألقي عليك السلام، وتصّدق الحمار ولا تصدّقني؟

لا شكّ في وجود الدليل الحسي هنا على وجود الحمار، ولكن جحا يتحدّى الواقع ويثير بصفاقة سافرة سؤالاً حول ماهية البيانات المؤكدة، ولماذا تعتبر مؤكدة. في هذا المشهد يطلب جحا من جاره الاعتماد على اعتبارات معنوية، غير مادية (الصداقة، المودة، وحسن الجوار) عوضاً عن الدليل المادي والحسي الدامغ (صوت نهيق الحمار).

هذه الادعاءات الجحوية ليست بعيدة عن عالمنا المعاصر. في سياق الدفاع عن التصريحات الكاذبة حول العدد الكبير للأفراد الذين حضروا احتفال تنصيب دونالد ترامب، أصرت كيليان كونواي، صاحبة عبارة «حقائق بديلة» ومستشارة الرئيس السابق، على صحة ادعاءاتها بوجود جماهير غفيرة في الاحتفال، على الرغم من وجود الصور والأدلة الدامغة على كذب الادعاءات، وأكدت بصفاقة وجود “alternative facts” حقائق بديلة، حقائق على الشعب الأميركي أن يصدقها، فمصدرها شخص يجب تصديقه (ترامب)، لأنه فاز في الانتخابات.

أليس من المفارقة أن يتشابه جحا العربي مع كيليان كونواي الأميركية؟ من قال إن الشرق والغرب صنوان لا يلتقيان أبداً؟

الفلسفة الوجودية (Existentialism)

ماجد: هل تعلم يا أحمد أنني أحياناً أتمنّى أن أكون مثلك.

أحمد: وما منعك أن تكون مثلي؟ أنت تستطيع أن تكون مثلي أو مثل أي شخص، ألم يقل فلاسفة الوجودية إن الإنسان يمكن أن يصنع شخصيته؟ فأنت يمكن أن تكون الشخصية التي تتمناها.

ماجد: فكرة جيدة؛ لأنني أتمنى أن أكون طويلاً مثلك.

طبعاً هناك حدود لقدرتنا على تشكيل شكلنا وسماتنا وواقعنا، على الرغم من أنّ جان بول سارتر، الفيلسوف الوجودي، يذكر أن «الوجود يسبق الجوهر أو الماهية»، وهذا معناه أن الواقع الأساسي حولنا هو وجودنا، وكل إنسان منا يصنع شخصيته الخاصة به حسب رغبته.

ولكن سارتر بالغ في فكرته هنا؛ فبالتأكيد توجد حدود لقدرتنا على اختراع شخصيتنا وفق ما نريده. اسمحوا لي أن أتخيل هذا المشهد لكي أوضح هذه النقطة:

لو أنّ عصفورة ضربت جرس باب شقة جان بول سارتر في باريس، وسألته هذا السؤال: «عمو جان بول، عمرك فكرت أن تكون عصفورة؟» لربما جعله السؤال المفاجئ يراجع فلسفته الوجودية وإيمانه بقدرته على تكوين الشخصية التي يختارها لنفسه، أو ربما ضحك وهو يقول: «فكرة رائعة» c’est tres bonne idée!

وهذا مشهد آخر يؤكد حدود القدرة على اختراع الشخصية:

بقرتان في الحقل في فترة انتشار وباء «جنون البقر»،

البقرة الأولى سألت الثانية: «ما رأيك في وباء جنون البقر»؟

ردت البقرة الثانية وقالت بهدوء شديد:

«أمّا إنك بقرة بصحيح! ما علاقة البقر بطائرة هليكوبتر مثلي»؟

* باحث زائر في جامعة هارفارد

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

تويتر