5 دقائق

المناسبات وتواصل الأرحام

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

من أجلِّ العبادات المفروضة في كل الأوقات ولاسيما في المناسبات وعند الحاجات، صلةُ الأرحام، التي ترضي الرحمن جلَّ شأنُه، فهي التي نظر الله تعالى إليها نظر رحمة، واشتق لها اسماً من اسمه، وجعل صلتها سبباً لصلته سبحانه بالرحمة والبركة والتوفيق، كما صح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خلق الله الخلق، فلما فرغ منه قامت الرحم، فأخذت بحِقو الرحمن، فقال لها: مه، قالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: ألا ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك، قالت: بلى يا رب، قال: فذاك» قال أبوهريرة: «اقرءوا إن شئتم: ﴿فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم﴾».

وفي رواية: «إن الرحم شِجنة من الرحمن، فقال الله: من وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته». أي يصله الله تعالى بكرمه وإحسانه وعميم فضله، وذلك تفضلاً منه ورحمة، والعكس بالعكس، فيجزي القاطع بالخيبة والخسران وعدم البركة في المال والحال جزاءً من جنس العمل، وقد بين النبي عليه الصلاة والسلام ثمرة محسوسة لصلة الأرحام فقال: «من سره أن يُبسط له في رزقه، ويُنسأ له في أثره، فليصل رحمه». وفي حديث آخر يقول فيه عليه الصلاة والسلام: «إن أعجل الطاعة ثواباً صلة الرحم، حتى إن أهل البيت ليكونوا فجَرة، فتنمو أموالهم، ويكثر عددهم إذا تواصلوا، وما من أهل بيت يتواصلون فيحتاجون». وفي حديث آخر يقول فيه النبي عليه الصلاة والسلام: «صدقة السر تطفئ غضب الرب تبارك وتعالى، وصلة الرحم تزيد في العمر، وفعل الخيرات يقي مصارع السوء».

ولا غرابة أن تكون الرحم بهذه المثابة عند الله جل في علاه؛ فهي التي قرن الله تعالى أمرها وشأنها بتقواه سبحانه فقال: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾، للتدليل على أهمية شأنها وعظيم خطر قطيعتها، والمعنى: أن الله سائلكم عن أرحامكم كما يسألكم عن حقه في التوحيد والعبادة، فعلى كل مكلف أن يعد للسؤال جواباً وللجواب صواباً حتى لا يخسر يوم الحسرة والندامة.

وصلة الرحم مفهومها واسع جداً، فالعطاء من المال صلة، والزيارة صلة، والوقوف مع الأرحام في السراء والضراء صلة، والسؤال عنها صلة، والمسرة بمسرتها والمساءة بأساها صلة، وأجمع ذلك أن تكون القلوب متآلفة غير متجافية ولا متخالفة.

فعلى المرء أن يكون حريصاً جد الحرص على صلة أرحامه في كل حال وعلى كل حال، بما تيسر له من ميسور العطاء والقول والفعل، لاسيما في المناسبات العامة أو الخاصة كالعيدين، فإن الصلة في هذه الأيام من أقوى الصِّلاة، والقطيعة فيهما تعبِّر عن جفاء وبغضاء، فليحذر المرء من ذلك أشد الحذر، حتى لا يتعرض لسخط الله ومقته، فإن الله جل ذكره لعن قاطع رحمه في كتابه العزيز مرتين يقول فيهما سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾، وقال في آية أخرى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾.

والرحم هي كل قرابة قريبة كالأصول من آباء وأجداد وأمهات وجدات، وفروع من أبناء وبنات وأبناء كل منهم، ومن حواشي كإخوان وأخوات وأبناء كل منهم، وما تفرع من الأصول كأعمام وعمات وأخوال وخالات وأبناء كل منهم، ثم بقية العصبات من ذوي القرابة القريبة والبعيدة، فكل هؤلاء حقهم أن يوصلوا ويحسن إليهم.

وحيث إننا في زمن وباء، يقتضي منا أن نتعامل معه بحذر ونتبع الإرشادات الصحية الوقائية التي دعا لمثله الشارع الحكيم، واقتضتها الأنظمة الصحية والأمنية الصارمة، فإن الواجب أن تكون الصلة المباشرة في هذا العيد بالذات بحسب التعليمات الصادرة التي تحمي الفرد والعائلة والمجتمع، وذلك إما اكتفاء بوسائل الاتصال المرئية والمسموعة، أو بزيارات منظمة بحيث لا يزيد العدد عما هو مسموح به، والجميع يعلم الحال فلا يعتب أحد على أحد، بل الكل يدعو إلى تطبيق هذه الإجراءات الاحترازية التي تؤمن المجتمع كله، لاسيما ونحن على مشارف التعافي التام إن شاء الله تعالى بعد استيعاب اللقاح جميع أفراد المجتمع، فلا يجوز لأحد أن يكون سبباً في ارتكاسة نحن في غنى عنها، بل نحن أشد تطلعاً للفرج مما عانيناه هذه الفترة الطويلة.

جعلنا الله جميعاً من الواصلين المرحومين الموفقين للخيرات بمنه وكرمه.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

تويتر