5 دقائق

الوجه الإيجابي من وباء كورونا

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

مع ما يمر به العالم كلُّه - والأمة الإسلامية خاصة - من كرب شديد، وحال غير سعيد، نفسياً واجتماعياً واقتصادياً، وقبل ذلك كله شعائرياً، بسبب هذا الوباء الجائح، والضُّر الفادح، لفيروس كورونا المشؤوم، إلا أن له وجهاً إيجابياً ينبغي أن يكون عزاءنا وسلوتنا، قد لا نجد هذا الوجه في غيره، ويُدرك هذا الوجه من خلال النقاط الآتية:

الأولى: أنه أرانا ضعف البشر، وأن قوتهم وتطورهم لم يغنيا عنهم شيئاً لصد فيروس أضعف مخلوق لله تعالى، سلّطه على عباده ليريهم قدرته، وأنه لا راد لما قضى، حتى يعودوا لمعرفته، ولا يغتروا بما مكّنهم الله تعالى في كونه، فهو آية من آيات الله، خضعت لها أعناق الجبابرة، أياً كان دينها، فإن الخليقة كلها متساوية في الضعف البشري والفقر الذاتي.

- بيوتنا التي كانت مهجورة من القرآن الكريم، فكانت تشبه الأموات، قد أصبحت بحمد الله تشع نوراً بذكره سبحانه.

الثانية: أن هذا الوباء تمدد زماناً كما تمدد مكاناً، حتى حل علينا هذا الشهر الفضيل ونحن نرزح تحت وطأته، فغِبنا عن المساجد والجمع والجماعات ونوافل الطاعات، وقد كان الكثير من المسلمين، لاسيما أولئك المعلقة قلوبهم بالمساجد، لا يتصورون أن يحل عليهم شهر رمضان وهم بعيدون عن بيوت الله التي أذن سبحانه أن ترفع ويذكر فيها اسمه، فلم يكونوا ليتصوروا أن لا يحافظوا على الفرائض والنوافل جماعة في المساجد، لشدة رغبتهم في الخير، فجاء هذا الوباء المانع ليخبر الناس أن المعبود سبحانه وَسَّع مراده منهم في العبادة، وأن هذه الأمة ليست أمة صوامع وبيعٍ وكنائس لا يعرف المعبود سبحانه إلا فيها، بل إنها أمة عابدة قانتة لله آناء الليل والنهار، في المساجد والدور والبر والبحر والجو، فحيث وجَد العبد المسلم سبب العبادة وتوفر شرطها صحت منه، ليزداد قرباً منه سبحانه وينال محبته، فوسع دائرة العبادة علينا معاشر المسلمين؛ لأننا خير أمة أخرجت للناس، وزيادة التشريف تقتضي زيادة التكليف.

الثالثة: أن بيوتنا التي كانت للاستجمام واللهو والبطالة، فلم يكن يُذكر فيها الله تعالى إلا قليلاً، أصبحت بسببه تشع نوراً بالعبادة والذكر والدعاء والتضرع، وإظهار الفقر والفاقة للعزيز الحميد سبحانه، فاتخذنا منها مساجد، ومحاريب، وامتثلنا أمر رسول الله صلى عليه وآله وسلم فيما روته عائشة، رضي الله تعالى عنها، قالت: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور، وأن تطيّب وتنظف»، فإن هذا الأمر يشمل الأحياء، كما يشمل البيوت، لشمول اسم الدور على الجميع، ويؤكد هذا الشمول ما صح عنه عليه الصلاة والسلام: «أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة»، فشمل هذا الفضل نوافل النهار والليل، ومنها التراويح التي نصليها كل عام في المساجد، وهو ما كان عليه بعض الصحابة، رضي الله عنهم، حتى أن عُتبان بن مالك، رضي الله عنه، طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيه في منزله ليصلي فيه ويتخذ مصلاه مسجداً، فأجابه النبي عليه الصلاة والسلام، فلما دخل قال: «أين تحب أن أصلي لك من بيتك؟ فأشار له إلى مكان، فكبّر النبي صلى الله عليه وسلم، قال عتبان: وصففنا خلفه، فصلى ركعتين».

فاتِّخاذ بيوتنا مساجد هو منهج إسلامي عظيم، وقد أشار إليه القرآن الكريم بقوله مخاطباً بني إسرائيل: ﴿وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾، فقد جاء تأويل الآية عن حَبر القرآن عبدالله بن عباس، رضي الله عنهما، قال: «اجعلوها مساجد»، وذلك إذا لم يتمكن المرء من أداء الصلوات في المساجد العامة، فإن البدل هو بيت الإنسان الذي هو جنته في الدنيا.

الرابعة: أن بيوتنا التي كانت مهجورة من القرآن الكريم، فكانت تشبه الأموات، قد أصبحت بحمد الله تشع نوراً بذكره سبحانه، فحييت بتلاوة القرآن وختمه في الصلاة وفي غير الصلاة، وهو ما رغب إليه النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: «مَثَلُ البيت الذي يُذكر الله فيه، والبيت الذي لا يذكر الله فيه، مثل الحي والميت».

فهذه إيجابيات حسنة من هذا الوباء الذي نسأل الله تعالى أن يعجل برفعه، وكما قال الصالحون: «ما من محنة إلا وفي طيها منحة»، وما يدركها إلا العاقلون.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.  

تويتر