5 دقائق

التزكية المذمومة

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

مع ما أُمِرنا به من مجاهدة النفس بتهذيبها وتزكيتها بالأعمال الصالحة التي ترقِّيها إلى مرضاة الله تعالى، إلا أن ذلك لا يخوِّل الإنسان أن يزكِّي نفسه، فيمدحها بما ليس فيها أو بما يتوهمه من الوصول إلى مقام التزكية فيُعجب بنفسه، فقد يكون ذلك سبباً لسخط الله عليه، لذلك نهى الله تعالى عباده أن يزكوا أنفسهم - أي يثنوا عليها ويمدحوها - فقال سبحانه: «فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى»، أي لا تمدحوها وتشكروها وتمُنُّوا بأعمالكم على الله تعالى - كما قال أهل التفسير - بل فوضوا ذلك إلى الله تعالى، فهو سبحانه أعلم بمن اتقى، لأن سر التزكية هو القبول عند الله تعالى، وذلك ما طوى الله عاقبته عن عباده، ولذلك ذم الله سبحانه اليهود لما أعجبوا بأنفسهم فزكوها وقالوا: «نحن أبناء الله وأحباؤه»، وقالوا «لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة»، إلى غير ذلك من دعاويهم العريضة، فرد الله عليهم تلك التزكية الكاذبة وحصرها بنفسه سبحانه فقال جل شأنه: «ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا»، وهذا الخبر الإلهي وإن كان في حال من كان سبباً في نزول الآية إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فمن زكى نفسه بمثل هذه الدعاوي العريضة، يكون قد ادعى ما ليس له به برهان، فترد دعواه لا محالة، ولذلك أرشد النبي عليه الصلاة والسلام أمته إلى عدم تزكية النفس حتى وإن كان ذلك على سبيل العموم كما ثبت في صحيح مسلم أن رجلاً سمى ابنته «برَّة»، فنهاه عن ذلك وقال: «لا تزكوا أنفسكم، الله أعلم بأهل البِر منكم»، فقالوا: بم نسميها؟ قال: «سموها زينب»، ونهى عن مدح الرجل في وجهه وإن كان فيه ما يقال حتى لا ينخدع بذلك المدح فيعجب بنفسه، ويغتر على ما هو عليه من الضعف والقصور، كما روى البخاري أن رجلاً أثنى على رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: «ويلك!! قطعت عنق صاحبك، قطعت عنق صاحبك» مراراً، ثم قال: «من كان منكم مادحاً أخاه لا محالة، فليقل أحسب فلاناً، والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحداً، أحسبه كذا وكذا، إن كان يعلم ذلك منه».

- الأصل أن يتقالَّ الإنسان

عمله فإنها الحقيقة،

وإن ظن أن عمله كثير

فإنه لا يساوي شيئاً

مع نعم الله.

ومع هذا النهي القرآني والتوجيه النبوي؛ فإننا نجد كثيراً من الناس غافلين عنه، فترى وتسمع من يزكي نفسه بما فيه وما ليس فيه، وقد لا يعلم أن مثل هذه التزكية تنعكس عليه بسلب الأجر، أو الوقوع في الغرور، وكلاهما خسران مبين.

والأصل أن يتقالَّ الإنسان عمله، فإنها الحقيقة وإن ظن أن عمله كثير، فإنه لا يساوي شيئاً مع نعم الله تعالى عليه الظاهرة والباطنة، فما على الإنسان إلا أن يسأل الله التوفيق أولاً لما ينفعه في دينه ودنياه، ويسأله القبول لما قدم من صالح العمل، والحفظ من الوقوع في الزلل أو التقصير، ولعل ذلك ينجيه، وقد ثبت في الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام أنكر على امرأة أثنت على شهيد وقالت: فشهادتي عليك لقد أكرمك الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وما يدريك أن الله أكرمه؟»، فقالت: لا أدري بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما هو فقد جاءه والله اليقين، وإني لأرجو له الخير، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل به»، قالت: فو الله لا أزكي أحداً بعده أبداً.

وهذا من باب التعليم والإرشاد للأمة حتى تتهذب بهدي القرآن وتعلم ضعف نفسها وتقصيرها، ولا تتكل على عمل، بل يظل الرجاء في الله والتشمير في العمل ومحاسبة النفس هو المنهج الذي ينبغي أن يسير عليه المرء في حياته، فعساه أن يكون في ذلك من المفلحين. ولنكثر من الدعاء المأثور:

«اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها».

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر