5 دقائق

العملات الافتراضية وحكمها الفقهي

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

عقدت كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الشارقة مؤتمرها الـ15، بعنوان «العملات الافتراضية في الميزان»، بحضور ومباركة صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة رئيس جامعة الشارقة، حفظه الله، فكان مؤتمراً فريداً في بابه؛ إذْ لم يسبق أن بُحثت هذه النازلة الفقهية في مؤتمر خاص يُعنى بتصويرها وأنواعها وخصائصها وفوائدها ومخاطرها والحكم عليها، وطرق الحصول عليها، وإن كنا قد بحثناها ضمنياً في منتدى فقه الاقتصاد الإسلامي الرابع عام 2018، من خلال أربعة أبحاث قُدمت فيه، وخرجت بشأنها بعض التوصيات.

نعم لم تُبحث بحثاً أكاديمياً موسعاً كما بُحثت في هذا المؤتمر، مع أن هذه المسألة هي حديث الناس عامة، وفقهاء الاقتصاد خاصة، وحديث مستثمري الأموال وشطار التقنيات الحديثة بأخص الخصوص، ولعل تأخر بحثها بسبب عدم التصور الكامل لها، لأنها نتاج عمل فردي أساساً، تبعه قبول خاص ممن اقتنع بإيجابياتها، فدخل مغامراً علَّه أن يدرك شيئاً من فوائدها البراقة، وهؤلاء لا يعدون كثرة مقابل المضاربين بالبورصة أو رواد أسواق المال مثلاً، لأن الدخول فيها قاصر على متقني التقنيات وماهري الخوارزميات، ومع ذلك فأغلبهم يخرج منها خالي الوفاض، ويندم على خسارته، ولات حين مندم.

لقد تعددت العملات الافتراضية في عالم التقنية والعملات الرقمية، فمنها ما اشتهر وانتشر كثيراً كالبتكوين، الذي بدأ براقاً فافتن به بعض الناس، حتى بلغ ثمنه أكثر من عشرين ألف دولار، ثم عاد إلى أقل من ربع هذا العدد حالياً، لما أدرك الناس قبل الدول خطره، وأنه كسراب بِقِيعة، كعادة الكثيرين الذين يريدون الثراء من غير عناء، اتباعاً لأوهام الفرص المواتية.

إن عالمنا اليوم هو عالم الرقميات والبلوك تشين والتطور التقني الهائل، الذي يظهر كل يوم بما يبهر ويحير، ولكن لا ينبغي أن يكون على أساس المخاطرة بالمال أو اتباع بُنَيَّات الطريق في كسبه، فالعملة النقدية لا تكون نتاج عمل شخصي، بل لابد أن تكون من إصدار حاكم ذي ولاية، وأن يحميها قانون، ويقبلها جميع الناس، وتكون ذات صدقية من واقع رصيد ذهب أو قوة صناعية أو عسكرية، وتكون مقبولة لدى المؤسسات المعنية، ويكون لها وجود فيزيائي ملموس، وما عدا ذلك فإنه لا يعدو أن يكون عملاً عبقرياً يسخِّر الناس لخدمة تلك العبقرية، ويستغله رجال المافيا وغسيل الأموال، لقدرتهم على استبدال هذه العملة الافتراضية بعملات قانونية، كالدولار والجنيه واليورو ونحوها ممن يقبلها، ولا يمكن الاطلاع على تصرفاتهم لعدم التسلل الرقمي أو متابعة حركة المال، وذلك ما جعل كثيراً من الدول يجرِّمها ويصنفها تصنيف غسيل الأموال.

نقول هذا من وجهة نظر شرعية ومقاصدية معتبرة، باعتبار ما ألمحنا إليه من وضع هذه العملات الافتراضية، التي حتى اسمها يرمز إلى الشك فيها، لأن العملة لا تكون افتراضية، بل حقيقية مقبولة منقولة بالحس، وتصلح أن تكون قيم الأشياء، وتتحقق فيها الثمنية الذاتية، وهذا ما لا يوجد في هذه العملة وأخواتها، كالبيتكوين كاش، والإيثريوم، والليتكوين، والريبل، والداش، ونحوها، ولعل وجهة النظر هذه تكون مقبولة من السادة المفتين، والفقهاء المتخصصين، لكن لا جزم في ذلك، لأن بحثها لايزال مبتدأً؛ لحداثة وجودها، فمازال التصور فيها غير مكتمل، حتى ينزَّل عليها التصديق.

وإذا كانت جامعة الشارقة، مشكورة، قد فتحت الباب للنقاش الجاد في هذه النازلة الفقهية، فإن المجامع الفقهية وهيئة المحاسبة والمراجعة المالية مطالبان بجد أن تكون هذه المسألة محور نقاش في برامج عملهما، لتحقيق التصور الكامل وتنقيح مناط الحكم فيها، ليكون تحقيق المناط واقعاً موقعه، فيكون الناس على بينة من أمرهم.

الغريب أن البعض قد يرى أنها من الاقتصاد الرقمي الذي تتسابق إليه الدول لأنه سمة العصر المتسارع، وليس الأمر كذلك، فالاقتصاد الرقمي هو عملة تطوير لآلية التصريف بالمال الحقيقي المكتسب، بطرق التقنية الحديثة التي تحول رأس المال بين الحسابات، أو دفع الاستحقاقات بالرقمية السريعة الآمنة، ومثل هذا محمود العواقب، يتناسب مع التطور الرقمي الهائل، بخلاف الافتراضي الذي لا وجود له إلا في الخوارزميات المعقدة.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

تويتر