5 دقائق

المصرفية الإسلامية في ظل الخلاف الفقهي المعتبر

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

ستظل المصرفية الإسلامية تتفيأ ظلال الخلاف الفقهي الرحب، الذي هو سبب التيسير ورفع الحرج؛ لتستمد منه التشريع الواسع لمنتجاتها وهياكلها ورقابتها وتدقيقها، وما يلزمها لتفريع الأحكام الفقهية التي تحتاج إليها المصرفية الإسلامية، بخلاف المصرفية التقليدية التي تمخر في قالب أو قوالب محددة منها، تستمد ثباتها وانتشارها وتغوّلها في اقتصاديات الدول والأفراد، لذلك لا تحتاج إلى كثير عناء ومزيد بحث وكثرة تفصيلات، فلا ينشغل أرباب هذا النوع باجتماعات مطولة ونقاشات حادة أو باردة، بل ينشغلون بطرق زيادة الربحية وكثرة التوسع واصطياد العملاء لاسيما الكبار منهم، فالفرق بين النوعين واضح، فلا لوم إذاً على المصرفية الإسلامية إن كانت مراعاتها لمصالح المتعاقدين، واحتكامها لقيم سامية يبطئ من سرعة منافستها للتقليدية، ويحد من قابلية تمويل منتجاتها لكل الأغراض المربحة.

لقد شهدنا هذا الأسبوع المؤتمر 17 لهيئة المحاسبة والمراجعة المالية (الأيوفي) بالمنامة عاصمة البحرين، وحضره كثير من كبار فقهاء الاقتصاد الإسلامي من مختلف الدول، وكان ثرياً بأطروحاته، غنياً بنقاشاته، مفيداً بأفكاره، ما يجعل تكراره عامل نهضة كبيرة للمصرفية الإسلامية، لأن اجتماع مثل هؤلاء الفقهاء يصحح النظريات الفردية التي قد لا تتفق مع منهجية الاقتصاد الإسلامي القائم من أكثر من 40 سنة، البالغة أصوله نحو تريليونَي دولار أميركي، ويفعل التطور المنشود لها، وذلك حتى لا يتنكس وضعه وتهتز ثقة المتعاملين به والراغبين فيه، فيبقى مفخرة العصر للفقهاء المسلمين، كما كانت لهم مفاخر سابقة في شتى العلوم، ذلك أن تبني الأقوال الشاذة أو المغمورة أو غير المعتبرة عند الفقهاء، يوحي بأن الاقتصاد الإسلامي لا يختلف عن الوضعي إلا بالاسم، فينفر الناس منه، وتمحق بركته، وذلك هدم لذلكم الجهد الكبير الذي بذله ومازال يبذله كثير من الفقهاء، لاسيما وقد أخرجوا معايير شرعية ومحاسبية وحوكمية وأخلاقية كثيرة، نحو 120 معياراً، فضلاً عن القرارات المجمعية ذات الصلة بالاقتصاد الإسلامي والندوات المتخصصة، وكلها تعتبر مصدراً لهذه الصناعة التي يحتاج إليها المسلمون وغيرهم، أفراداً ودولاً، فكان لزاماً أن تكون محل التطبيق لهذه الصناعة، لأنها لم توضع ويبذل الجهد الجهيد لإخراجها إلا لتصحب بالعمل، لاسيما وأن واضعيها هم من يتربعون عروش الرقابة والتدقيق الشرعيين للمصارف والشركات العاملة في المال الإسلامي.

نعم، نحتاج إلى دخول بوابة الصكوك الواسعة، ولكن لا على أسس السندات وأذونات الخزانة الربويتين اتفاقاً، بل على أساس الملكية الحقيقية المتبوعة بالغنم، أو الغرم عند التعدي أو التفريط أو مخالفة الشروط، ونحتاج إلى التوسع في الإجارة المنتهية بالتمليك، ولكن لا على أساس سلب خصوصية المِلك عن المؤجر وتحمله الضمان والصيانة، بل على أساس التأجير الحقيقي الذي يُبقي حق التملك فيبني عليه ضمان العين وسريان صلاحيتها حتى انتهاء المدة، ونحتاج إلى معالجة الديون المتعثرة، ولكن لا على أساس قلب الديون أو بيعها لمن هي عليه بتخريجات واهية لا يحتملها الفقه ولا المقاصد الشرعية؛ فتكون من باب جدولة الديون الربوية، نحتاج إلى كثير من التطوير والابتكار ولكن بتأصيل فقهي معتبر، ونظرة مقاصدية تحقق الابتعاد عن الربا وأكل أموال الناس بالباطل، وتحقق نماء المال من وجهه الشرعي والحفاظ عليه، وتحقق النفع المجتمعي والأخذ بأيدي الفقراء إلى ساحة الاستغناء عن الناس، لا على تكبيلهم بالديون المرهقة والزج بهم في السجون، نريد اقتصاداً إسلامياً ينجينا من محذور المخالفة الربوية حقاً وحقيقة، وكل ذلك لا يكون إلا بالتخريجات الفقهية المؤصلة التي هي حجة للفقهاء عند ربهم، ومنجاة للمتعاملين الذين يقبلون على المصرفية الإسلامية إيماناً واحتساباً، فنكون صادقين معهم ومؤدين واجب الأمانة الشرعية والبلاغ النبوي اللذين حُملناهما.

إن الاقتصاد الإسلامي الشامل لأبواب كثيرة غير المصرفية هو الاقتصاد الحقيقي الواعد، بشهادة أرباب الاقتصاد التقليدي ودلالة الإقبال الكبير عليه حتى من غير المسلمين، لذلك يتعين أن يبذل صانعوه الكثير من الجهد الفكري والبدني والمادي حتى يحقق المنافسة الندية للاقتصاد الوضعي، لا أن يكون تابعاً له.

والله ولي التوفيق.

 «كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لمشاهدة الموضوع بشكل كامل، يرجى الضغط على هذا الرابط.

تويتر