5 دقائق

حلف الفضول

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

حلف الفضول عنوان كبير ومبدأ إنساني سامٍ، فعلته قريش في جاهليتها لنصرة المظلوم وإقامة الحق، ومنع الفوضى التي قد تحدث بين الناس، حينما لا يكون هناك وازع من ضمير أو نظام قوي حامٍ، كما كان من العاص بن وائل حينما ظلم الزَّبيدي ثمن بضاعته التي اشتراها منه فلم يوفه حقه، حتى استعدى عليه قريشاً بأبياته الشهيرة:

يا آل فهرٍ لمظلوم بضاعته ...

                          ببطن مكة نائي الدار والنفرِ

ومحرم أشعث لم يقض عمرته ...

                          يا للرجال وبين الحِجر والحَجر

إن الحرام لمن تمت كرامته ...

                           ولا حرام لثوب الفاجر الغدرِ

فما نشب أن قام الزبير بن عبدالمطلب ونفر آخرون بتلبية ندائه، وتعاهدوا على نصرة المظلوم، وأطر الظالم أطراً حتى يؤخذ الحق منه.

حتى قال الزبير:

إن الفضول تحالفوا، وتعاقدوا ...

                     ألا يقيم ببطن مكة ظالم

أمر عليه تعاهدوا، وتواثقوا ...

                    فالجار والمعتر فيهم سالم

فكان أكرم حلف وأشرفه سمعت به العرب، حتى قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد شهدت في دار عبدالله بن جدعان حلفاً ما أُحب أن لي به حمْر النَّعَم، ولو أُدعى به في الإسلام لأجبت»، شهده وعمره 20 سنة فحبذه بعد الإسلام؛ فكان هذا إقراراً له في شرعه الشريف وتحبيذاً له، وهو المنهج الخُلقي الذي كان يتمثله عليه الصلاة والسلام، كما قالت خديجة رضي الله عنها في صفاته: «إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق».

وقد كان هذا الحلف أول وثيقة عرفتها البشرية لمصطلح حماية حقوق الإنسان المعروفة اليوم، ولا يختلف في مضمونه الناس اليوم على اختلاف دياناتهم وأعراقهم، فالكل ينشد مضمونها، ويدعو إلى تفعيل معناها ومبناها بما سمي بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وما تتبناه منظمات حقوق الإنسان، غير أن تفعيل ذلك - كما فعلت قريش ومن قبلها جرهم كما يذكره بعض أهل السير - لا وجود له؛ بدليل ما نراه من هدر لهذه الحقوق الإنسانية في كل مكان من العالم، لاسيما حقوق الإنسان المسلم في بلد الإسلام وغيره، لهوانه اليوم عند أخيه الإنسان!

وقد عقد منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة مؤتمره الخامس في العاصمة أبوظبي، من 5 إلى 7 الشهر الجاري، بعنوان حلف الفضول؛ لإحياء هذه السنة النبوية والكرامة الإنسانية، وحضر هذه الفعالية المباركة العدد الغفير من مختلف البلدان والديانات، وكلهم يتكلم بلسان واحد عن حماية هذه الحقوق المهدرة بكل ما تعنيه الكلمة.

وهو توجه كريم واختيار موفق من المنتدى وراعيه الكبير سمو الشيخ عبدالله بن زايد، وزير الخارجية والتعاون الدولي، حفظه الله، هذا الرجل الذي يرى أن للإنسانية حقاً عليه فيبذل قُصارى جهده في نفعها، من خلال رعايته لهذه الأنشطة الإنسانية والإسلامية في منتدى تعزيز السلم وغيره.

إن إحياء حلف الفضول في هذا الوقت العصيب، الذي تمر به الأمة المسلمة على وجه الخصوص، هو في الحقيقة مناشدة للضمير العالمي ليعرف حقوق الإنسان الذي قامت منظمة الأمم المتحدة مشكورة بصياغتها وتعميمها، لكنها لم تُعن بتفعيل بنودها الآمرة إلا على استحياء، لاسيما على الإنسان المسلم، بينما تقوم منظمات حقوق الرفق بالحيوان بما يلزم على الوجه اللائق.

وها هو فضيلة الشيخ العلامة عبدالله بن بيَّه، رئيس منتدى تعزيز السلم، لا يكاد يضع العصا عن عاتقه، ولا تهدأ نبرات صوته البليغة من تذكير أولي الحول والطول من الدول المتقدمة، ومِن على المنابر الأممية والعالمية بهذه الحقوق، التي يرون أنفسهم أنهم من دعاتها، وذلك حتى يقوم الجميع بواجبه نحو تفعيل هذه الحقوق، وحماية البشرية من التفاني والتناحر وصناعة وسائل الدمار والخراب، فالأمة الإنسانية لم تخلق لتتفانى بل لتتعايش وتتكامل في تحقيق مصالحها الحالية والمستقبلية.

ولعل هذا المنتدى قد أسمع العالم أننا معاشر المسلمين ننشد حلف الفضول التليد بواقع معاصر أكثر فاعلية، والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر