كـل يــوم

فيلم وثائقي في عمق التاريخ بصوت سلطان

سامي الريامي

هو صاحب سمو، وهو عضو مجلس أعلى للاتحاد، وهو حاكم إمارة الشارقة، لكنه بالأمس كان شخصية مختلفة، شخصية عربية مبدعة، لقد كنا أمام عالم وباحث ومؤرخ تاريخي كالبحر في غزارة معلوماته، ودقة تفاصيله، يمر على التاريخ منذ آلاف السنين، ويتنقل بين حقباته بسلاسة، ويربط بين الأحداث والكلمات والأسماء عبر الزمن، ويستخلص النتائج، ليصحح المعلومات الخاطئة، ويعدل من مسار الأحداث غير المترابطة، ويكمل الفراغات الضائعة بين أيام الماضي السحيق، فتصبح الجمل مفهومة، والأحداث التاريخية مترابطة وسليمة أقرب للعقل والمنطق.

صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي ليس كاتباً للتاريخ، ولا ناقلاً له، فالتاريخ مكتوب على حسب السلطة، وكتبه المنتصر بحد السيف، وفيه الكثير من التزييف، وسموّه لا يمكن أن يضع معلومة دون تمحيص وبحث وجهد كبير، فهو مؤرخ وعالم في التاريخ الإنساني، وهو منقح للتاريخ وباحث عن الحقيقة، وتالياً فلا غرابة أن تكون له اكتشافاته الخاصة التي سجلت باسمه، ولم يسبقه إليها أحد قبله على تواتر آلاف السنين.

استمعنا واستمتعنا في محاضرة رمضانية، ألقاها الشيخ سلطان عن جذور الأدب العربي، ليس من أيام الجاهلية ولا صدر الإسلام، بل منذ عام 1800 قبل الميلاد، لقد كنا نشاهد فيلماً سينمائياً وثائقياً بصوت سموّه، فيلماً مترابط الفقرات والأحداث، مخيلتنا الصغيرة المبنية على كلمات وأسماء تاريخية مترسخة ككلمات دون تفاصيل كالآراميين والأنباط والإسكندر الأكبر والإغريق، تغذت بشكل كبير بمعلومات وافية عن تفاصيل ذلك الزمن الضارب بالقدم، معلومات نسمعها للمرة الأولى عن مراكز ثقافية وأدبية وشعرية في عهد الآراميين، مثل مركز «الرها»، وهي مدينة مسوّرة وبها نهر، وهي معبر للتجارة وتتهافت عليها شعوب بلدان فارس والإغريق، وسكانها خليط بين الآراميين والأنباط، وتحولت في ذلك الوقت من الزمن البعيد إلى مركز لكل اللغات التي ظهرت، واهتم أهلها ببحوث اللغة والأدب والشعر والعلوم والمنطق والفلسفة والتاريخ والموسيقى والقصص ومختلف فنون الأدب بشكل عام، وهذا المركز هو البداية الحقيقية والأساسية التي نبعت منها اللغة العربية، وغيرها من اللغات الحية.

لقد عرفنا بالأمس معنى كلمة «شعر»، فالشعر لغة هو «خبر وعلم»، و«شعر نبطي» تعني «لديه خبر وعلم عن الأنباط»، لأنهم كانوا يستخدمون الشعر لنقل الأخبار بين مكة والمناطق الأخرى التابعة لهم، وكانوا يعشقون الشعر المتمثل في القصيدة والأغنية، والقصيدة عندهم هي خطاب شعري قصصي غالباً يتكون من ثلاثة بحور وثلاثة أوزان، والأغنية عبارة عن تراتيل تتنوع فيها البحور من 4 إلى 10 مقاطع، ويتكرر الشطر الأول من كل فاصل، وهذا شيء شبيه جداً بمكونات القصيدة والأغنية الحالية.

ما يقوم به الشيخ سلطان عمل شاق يتطلب جهداً كبيراً، وهو بحق مفخرة لكل إنسان عربي، فسموّه يقوم بدراسة التاريخ وأحداثه، ويهتم بكل التفاصيل التاريخية الصغيرة، ويعمل على تدوين وكتابة الأحداث التاريخية، وتحليلها بطريقة محايدة دون أن يظهر تحيّزه تجاه طرف بعينه، فهو ينقل ما يثبت صحة الأحداث من تاريخ العرب والقرآن الكريم، كما ينقل بعض الأحداث من الأسفار ومن كتب اليهود وغيرهم، ويهتم بسرد منهجي، ويعمل على تسليط الضوء على كل التفاصيل والأحداث التي وقعت في الماضي، ويعمل على فهم واستيعاب واستنباط كل الأحداث من المصدر التاريخي، ولا يتوقف سموّه عند سرد الأحداث الماضية فقط، بل يهتم بتفسيرها، ويأخذنا بأسلوبه الإبداعي إلى الزمن التاريخي الذي يكتب عنه.

سأله أحد الحضور عن مغزى قول علي بن أبي طالب: «نحن من كوثه»، فأجابه سموّه بسرعة شديدة: «لم يقل كوثه»، بل قال نحن من «كونا»، لابد أن أصحح هذه المعلومة، فلربما قرأتموها في كتاب ما بطريقة خاطئة، هي «كونا»، وهي بلدة سيدنا إبراهيم عليه السلام.

هذا هو الحرص، وهذه هي الثقافة، وهذا هو التاريخ.. حاضرة بقوة في شخصية سلطان بن محمد!

reyami@emaratalyoum.com

twitter@samialreyami

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر