5 دقائق

شهر تُرفع فيه الأعمال

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

جاء في حديث أسامة بن زيد، رضي الله عنه، أنه سأل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قائلاً: يا رسول الله، لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: «ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم»، فدل الحديث على أن لهذا الشهر مزية على غيره، وهي أن أعمال العباد في سنتهم ترفع إلى الحق سبحانه في هذا الشهر، وأن على العبد أن يحسن عرض عمله على مولاه، ليكون متوَّجاً بالعمل الصالح، ومن أجلِّ الأعمال الصالحة الصيام، الذي هو سر بين العبد وربه سبحانه وتعالى، الذي يقول عنه الحق سبحانه: «كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به»، وسواء كان الصيام فرضاً أو نفلاً فإنه مما خص الله به نفسه، فلا يشرك في جزائه وثوابه أحداً غير الصائم، فلا تُستوفى منه حقوق العباد، ولا تكتب أجره الملائكة، لأنه غير محدد المقدار، بل هو كأجر الصبر الذي أخبر الله عنه أنه بغير حساب، فهو عطاء من رب جواد كريم بما يليق بكرمه وجوده، بقدر إخلاص عبده وصدقه مع مولاه، فكان مناسباً لأن يكون شافعاً لأعمال العبد في سنته، فلعل الله تعالى يجد في صوم عبده ما يستر عيبه ويجبر نقصه، وفعله صلى الله عليه وسلم ذلك هو تشريع لأمته، وحث لها على أن تستن به فيه.

في هذا الشهر المبارك

ليلة مباركة هي ليلة

النصف من شعبان

التي ورد في فضلها

خير كثير.

كما أنه سابق ومهيئ لرمضان، فكان التنفل فيه بالصيام يحمل معنى الشوق إلى الشهر الكريم، وتتهيأ النفس وترتاض على أداء فرضه، حتى لا تستثقل فريضة الله تعالى أو تكرهها، فلا يكون العبد من القانتين، والمعهود في الشريعة الغراء أنها شَرعت نوافل قبل الفرائض وبعدها لتجبر نقصها، ويتحقق بها التسابق إلى الخيرات، حتى ينال العبد محبة الله، كما ورد في الحديث القدسي: «ومايزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه».

وأشار إلى مسألة مهمة، وهي أن هذا الشهر تكثر فيه غفلة الناس عن عظيم منزلته، لكونه وقع بين شهر حرام وهو شهر رجب، وشهر عظيم آخر هو شهر رمضان، الذي كتب الله تعالى على عباده صيامه، فيهتم الناس بالشهر الحرام وشهر رمضان، ويغفلون عن شهر عرض الأعمال على الله تعالى، فدل على أن العبادة في وقت غفلة الناس أفضل منها في وقت تيقظهم، لما في العبادة في وقت الغفلة من جوهر الإخلاص لله جل وعز، والإخلاص هو سر القبول والثواب العظيم.

ودل الحديث أيضاً على أن صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الشهر أكثر من صيامه في سائر الشهور، فقد كان عليه الصلاة والسلام يصوم الاثنين والخميس، ويصوم الأيام البيض، أما هذا الشهر فكان يصومه كله إلا قليلاً، كما قالت أم المؤمنين عائشة، رضي الله تعالى عنها: «ولم أره صائماً من شهر قط، أكثر من صيامه من شعبان، كان يصوم شعبان كله، كان يصوم شعبان إلا قليلا»، لأن ساعة العرض على الله تعالى مبهمة في الشهر كله، فلعلها تصادف يوماً منه، ومن هنا لم ير كثير من أهل العلم كراهية الصوم بعد منتصف الشهر منه، خلافاً للشافعية، الذين رأوا الكراهة، عملاً بحديث «إذا انتصف شعبان فلا صوم حتى يأتي رمضان»، وذلك للفصل بين النافلة والفريضة حتى لا تلتبسا، أو يقع المسلمون في ما وقعت فيه الأمم السابقة من الزيادة على الفريضة، فكانت رهبانية ابتدعوها فما رعوها حق رعايتها.

كما أن في هذا الشهر المبارك ليلة مباركة، هي ليلة النصف من شعبان، التي ورد في فضلها خير كثير، وكان فيه تحويل القبلة إلى بيت الحرام، بعد أن ظل النبي، صلى الله عليه وسلم، يقلب وجهه في السماء يسأل ربه توجيهه إلى قبلة أبيه إبراهيم، عليهما الصلاة والسلام، وأول بيت وضع في الأرض، فكان ذلك في النصف منه.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

 

تويتر