لحظة

من الأقْصُر إلى أسوان

ياسر حارب

في عام 1881؛ اكتشف عالم الآثار العراقي الأصل، هرمز رسام، المتخصص في الحقبة الآشورية، لوحاً طينياً يعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد، يحمل خريطة بابل كما تصورها أهلها، التي يُعتقد أنها أول خريطة في التاريخ، وتُسمّى «خريطة العالم البابلية». لم يكن الهدف من رسم تلك الخريطة هو الاستدلال على الأماكن، بل إبراز سُلطة الدولة وهيبتها؛ فمن كان يسكن في بابل، كانت الخريطة كفيلة بمنحه شعوراً بالتفوق على الآخرين، ومن كان يسكن خارجها كانت تُشعره بقوة بابل وسيطرتها على العالم. وهذا ما شعرتُ به في رحلة عدتُ منها قبل أيام، قطعتُ فيها نهر النيل من مدينة الأقصر إلى أسوان، وقفتُ فيها على أهم آثار العالم ومعابده دون منازع.

كان وادي الملوك هو الأكثر إبهاراً، رغم أنني قضيتُ سنوات طويلة وأنا أشاهد وثائقيات عن اكتشافاته ومقابره، ففيه اكتشَف عالِم الآثار الإنجليزي هوارد كارتر مقبرة الفرعون الأكثر شهرة توت عنخ آمون. ومن حُسن حظي وأصدقائي أننا نزلنا إلى تلك المقبرة بصُحبة عالم الآثار المصري زاهي حوّاس، الذي حدّثنا عن مومياء توت عنخ آمون القابعة أمامنا مباشرة، ثم أخذنا إلى موقع حفريّ جديد يعتقد أن به مقبرة لم تُكتشف حتى الآن. أكثر ما أعجبني في الوادي هو مقبرة الملكة نفرتاري، التي كانت زوجة رمسيس الثاني، أو مَن يعرف برمسيس العظيم، حيث بدت الرسومات على جدران المقبرة زاهية الألوان، بهيّة الرّسم، كأنها رُسِمَت قبل أشهر.

وفي معبد الكَرْنَك فهمنا كيف تُصنع المِسَلّات الفرعونية، حيث تُبنى كاملة وتُنقَش الرسومات عليها، ثم تُهَيَّأ لها حُفرة عميقة يوضَع طرف المسلّة فيها ثم يتم رفعها بدقة ميكانيكية أعجزُ عن شرحها في هذه المساحة الضيّقة. استمرّ إبحارنا في النيل والتاريخ، فتوقفنا في معابد الأقصر، وحَتشبسوت، وكوم إمبو، وإدفو، حتى حطّت رحالنا في معبد فيلة بأسوان الساحرة. كان الفراعنة مشغولين بالحياة الآخرة، فمنذ أن يتولّى الفرعون الحكم يبدأ بتجهيز مقبرته التي ستحمله للعالم الآخر. وكان كل شيء في مجتمعهم يدور حول المعبد الذي لا يحق للناس دخوله سوى الكهنة، بل إن في المعابد مكاناً لا يدخله إلا كبير الكهنة. ويبدو أن الدين كان يُستخدم للسيطرة على عقول البسطاء منذ قدم التاريخ، فلقد كان الكاهن يتكلم باسم الآلهة، ومن خلاله تُفهم تعاليمها، وينزل الخلاص على الأتباع.

الغريب في حضارات مصر القديمة أن كل من استعمر أرضها تأثر بثقافتها، فالفرس والإغريق والرومان ذابت معتقداتهم وثقافاتهم في الحَضْرة المصرية، حتى إنهم كانوا يبنون معابدهم في الأماكن المقدسة عند أهل البلد، بطريقة تُشبه الهندسة الفرعونية.

في أسوان دخلنا فندق «كتراكت»، الذي كان يؤمه الملوك والرؤساء، حتى إن الوالد الشيخ زايد - رحمه الله - قد زاره في عام 1990، وأعلَن منه عن تبرّع الإمارات بـ20 مليون دولار للإسهام - إلى جانب دول عدة - في بناء مكتبة الإسكندرية. دخلنا جناح ونستون تشرتشل، رئيس وزراء بريطانيا الأشهر، وجلسنا في بلكونته لنُطلّ على تفرعات النيل الذي يتغلغل في أسوان كعاشق غرَسَ يده في شعر محبوبته.

كانت الرحلة في معيّة الأخ والصديق سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان، وزير الخارجية والتعاون الدولي، الذي تهوي أفئدة المثقفين والأدباء لخوض غمار الحديث معه. وكان من بين الحضور: وزير الصحة عبدالرحمن العويس، ووزير دولة الدكتور زكي نسيبة، وجمعٌ غفير من عُشاق الثقافة والفنون والآثار الإماراتيين. عندما انتهت رحلتنا، التفتُّ إلى صديقي، وقلت له: «عرفتُ الآن لماذا تُلقّب مصر بأم الدنيا».

yasser.hareb@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر