5 دقائق
القيم الأخلاقية أساس استدامة الأوطان
كلمة رائعة وحكمة بالغة تلك التي قالها سمو الشيخ سيف بن زايد آل نهيان، نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية: «القيم الأخلاقية الأساس الأمتن لاستدامة الأوطان»، فإن الأوطان ليست أطلالاً ولا مساحات، بل هي أخلاق وقيم قبل ذلك، فبالأخلاق والقيم تستدام وتتحضر، وبفقدها تذهب وتندرس، فهي حقيقة كونية يعلمها كثير من الناس، وقد عبّر عنها الأدباء قديماً، كما قال شوقي:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وقوله:
وإذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليهم مأتماً وعويلا
وبيان ذلك أن القيم الخُلقية تحمل المواطن على أن يجعل الوطن في المقام الأول من كل غرض يهدف إليه أو يتحرك فيه، فيحمل له المحبة والإخلاص والوفاء، وهذه من أمهات الأخلاق وجوامع القِيم، فمن كان في جوانحه الحب لوطنه لم يؤثِر عليه شيئاً، قلَّ أو جلّ، وذلك دليل نُبله، كما نقل الأصمعي عن أعرابي قوله: إذا أردت أن تعرف وفاء الرجل ودوام عهده، فانظر إلى حنينه إلى أوطانه، وتشوقه إلى إخوانه، وبكائه على ما مضى من أزمانه.
ولقد كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يقول وهو خارج من مكة بأمر ربه سبحانه: «أما والله إنك لأحب البلاد إلى الله سبحانه، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت»، ولما سمع ورقة بن نوفل، رضي الله عنه، يبشره بالنبوة، ويخبره بما تنبأه من أذية قومه له، وإخراجه من بلده، قال عليه الصلاة والسلام: «أو مُخرِجِيَّ هم»؟! فهمَّه أمر الإخراج وغمّه، حتى أنساه عِظم البشارة، لذلك لم ير جُبران قلبه إلا أن يسكنه الله في أحب البلاد إلى الله، فدعا ربه قائلاً: «اللهم إنك أخرجتني من أحب البلاد إلي، فأسكني أحب البلاد إليك»، فأسكنه الله المدينة.
ولما كانت المحبة للوطن هي أساس الوطنية، كان يدعو ربه فيقول: «اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد»، تلك هي المحبة للوطن، النابعة من كريم الأخلاق وعظيمها.
أما الوفاء الذي هو من شِيم العقلاء ومكارم أخلاقهم، فيكون لمن أسدى إليك معروفاً، أو منحك إحساناً، وليس هناك أجلّ من وطنك، فإنه أول من أحسن إليك في هذه الدنيا، بعد نعمة الله تعالى عليك بالوجود، فبه كانت النشأة والتغذية والحماية، كما قال بعض شعراء العرب:
أحبُّ بلاد الله ما بين منعج ... إليَّ وسلمى أن يصوب سحابُها
بلادٌ بها حلَّ الشباب تمائمي ... وأول أرض مس جلدي ترابها
ولذلك كان النبي، صلى الله عليه وسلم، شديد الوفاء لوطنه وقومه، فإنه ما إن دخل مكة فاتحاً حتى أمَّن أهلها، وقال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، ولما سمع من بعضهم قوله: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة، قال: «كذب فلان، ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة».
ذلكم هو الوفاء والرحمة والتحنن، فلا عجب أن يكون كذلك، فإنه كما قال بعضهم:
فما حملت من ناقةٍ فوق رحلها أبرَّ وأوفى ذمة من محمدِ
ولذلك قال بعض حكماء الهند: حرمة بلدك عليك مثل حرمة أبويك؛ لأن غذاءك منهما وغذاءهما منك. وقال آخر: أرض الرجل ظئره، وداره مهده. وقال آخر: الحنين إلى الوطن من رقة القلب، ورقة القلب من الرعاية، والرعاية من الرحمة، والرحمة من كرم الفطرة، وكرم الفطرة من طهارة الرشد، وطهارة الرشد من كرم المحتد، قال الشاعر:
لقرب الدار في الإقتار خيرٌ من العيش الموسع في اغترابِ
فتلك هي القيم الخلقية التي تبنى بها الأوطان، فلا تفرط بها لمطمع أو إغراء، بل هي التي تجعل له قداسة حتى تحمى بيضتها ويعز أهلها، وتخدم كما يخدم الأبوان بوفاء وإحسان، وإخلاص وإتقان.
فاللهم آمنا في أوطننا وأصلح وأعن وسدد ولاة أمرنا.
«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .