أبواب

عن ملتقانا في «سوسة»

ريم الكمالي

بلغت «سوسة» التونسية المائة بعد الألف من عمرها، وقد نضجت إثر تراكمات الأحداث عليها، وأدركتْ مكانتها، بعد أن عتقت وتغيّر اسمها مرات عدة حسب حكامها من هدروماتوم وجوستينا.. حتى سوسة، هذا الاسم الأمازيغي الموسيقي بنكهة البحر الأبيض المتوسط، الذي توسط ليجمع بين الشرق والغرب، ويوفق بين الشمال والجنوب.

• «ليس المهم أن نقرأ، بل ماذا نقرأ، وكيف نقرأ؟ وكيف يمكننا أن نوقظ بكتابتنا القارئ من سبات طال أمده؟».

بدعوة من وزارة الثقافة التونسية، كنتُ هناك منذ أيام، ولم أفطن إن كان البحر يطوّق سوسة الجميلة أم تُطوقه؟ فمع كل إشراقة من إشراقاتها، أيقظت الشمسُ في مقلتيَّ حكايات مختلفة، لأرى سيداتها السامقات اللائي أسّسن ثقافة العطاء عن طريق «جمعية المبدعات العربيات بسوسة» صامدات في طريقهن ورؤيتهن، بعد أن أبصرن ما جنينه من يقظة فكرية، وعدالة واكبنها أمام نساء العالم المتحضر.. ليأتي هذا الملتقى بعنوان «ثقافة الحياة في الإبداع النسوي بعد الثورة».

احتفينا جميعاً بالقراءات الثرية للمبدعات العربيات وبالمداخلات المستنيرة، وفي الوقت ذاته المتألمات من الفقد والضياع لأبنائهن الذين لم يسلموا من لسع الانتماء إلى القوى الظلامية وعقولها المعتمة بعد المتغيرات الأخيرة، وتصعيد الثورات التي ولّدَت الفوضى، لتهب الفتن، ويتمرد الانفعال، ويخرج الهرج، حتى أودت بحياتهم، بعد أن كانت الشعوب أكثر أماناً وارتياحاً لتصبح أكثر اضطراباً وهيجاناً.

نبهت المبدعات العربيات في هذا الملتقى الأعين والمسامع - بلا مبالغة - أثناء قراءاتهن، مقارعات بالإبداع تلك الثورات البائسة التي لم تأتِ بالنتائج المراد لها، لذا كان الإبداع في أوراقهن حاضراً وبقوة بعد إتقانهن نصوصاً ولوحات وفنوناً فكرية، تُعبر عن استعدادهن لمواجهة الإرهاب عبر نقد العقول المتراجعة والسيئة.

أيقظن الصفحات النائمة في بطون الكتب المغلقة لنقاشها، حفاظاً على الجمال والحب ونبذ الحقد.. قرأن ما كان مطوياً قرب المتون والحواشي، للتنفس من جديد، وتجنب هذه القوى الظلامية التي سفكت دماء أبنائنا، فحصدتهم بالفتاوى المتهالكة التي دهمتنا حين ابتعدنا عن المناخ الثقافي الحر.

كانت الجلسات تحمل أوراقاً لأسماء لامعة ومبدعة في اللغة واللسانيات، مثل د. ألفة يوسف، ابنة سوسة المضيئة، الحاملة للحداثة، والمساهمة في أبحاثها ونتاجاتها ومؤلفاتها، حيث قالت في مجمل ما قالت «إن المرأة أيضاً تحمل بداخلها سلطة ذكوريّة لابد أن تتخلص منها». بالإضافة إلى الأسماء النسائية من كل الدول العربية، نساء مشرقات قاومن بالإبداع البلادة الذهنية والبكاء والكسل، كما قالت د. آمال قرامي، والتي تصر على ألا مقاومة إلا بالإبداع الأدبي، والجودة في تقديم الأقصوصة والشعر والرواية والفنون.

المرأة التونسية فخورة بثقافتها ووعيها، والأهم بما تملك من مكتسبات قانونية عالية، بدا ذلك جلياً في الكثير من الطروحات، إذ قالت الأديبة والناقدة ميسون شقير إن «تونس كانت ولم تزل (رئة) مازلنا بحاجة إليها».

ومن المداخلات المهمة والمُحركة في الملتقى ما تفضلت به وفاء الحكيم التي نادت بالخروج من مسرح الملتقى المغلق إلى المدرسة، واقتحام المجتمع بشكل شرس لتوصيل الكلمة، كما يفعل الآخر الظلامي الذي استطاع أن يسرب فكره في مناهج أبنائنا.

كما أبكت الروائية العراقية، إلهام الزبيدي، الحضور أثناء قراءتها عن أكبر صدمة حضارية عاشها العالم في «نينوى» التي نكبت بتدمير آثارها جرّاء أعمال لا أخلاقية تنتمي إلى عصور سحيقة.

وأخيراً نطل على أنفسنا من جديد لنقول: «ليس المهم أن نقرأ، بل ماذا نقرأ، وكيف نقرأ؟ وكيف يمكننا أن نوقظ بكتابتنا القارئ من سبات طال أمده؟».

شكراً سوسة لهذا الملتقى المشرق.

Reemalkamali@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتبة يرجى النقر على اسمها .

تويتر