أبواب

توالدات مشرقة

ريم الكمالي

منذ ما يقارب الألف عام، اقتبس الشاعر والفيلسوف والأديب المعروف أبوالعلاء المعري من رحلة الإسراء والمعراج كتابهُ «رسالة الغفران»، الذي يحمل أسلوباً روائياً مُتخيلاً، وسفراً أشبه بأدب الرحلات التي وجهتها العالم الآخر، لتصبح الرحلة من غرائب الخيال.

• تبدو اليقظة الفكرية وكأنها ثغرة يخترقها الإنسان، فإما أن يترك صدعاً ويرحل، أو يقدم تجبيراً وإصلاحاً يصل إلى ضوء. وهكذا الأدباء أيضاً وأينما كانوا يشعرون بأن وظيفتهم في الإلهام والاشتقاق والمقارنة أو المقاربة هي وظيفة تنويرية وواجبة على عاتقهم لنضج إنساني أكبر وأكثر انفتاحاً وتقدماً للإدامة والتتابع بعد خمود وانطفاء.

ففي هذا النثر الأدبي المُتخيل والسرد القصصي الإبداعي تصور المعري جلسة أدبية في الفردوس يحضرها عدد كبير من شعراء الجاهلية مثل امرؤ القيس وطرفة بن العبد والمهلهل وعنترة وعمرو بن كلثوم وغيرهم، يحاورهم وهم هناك في أدبهم، وينقدهم ليظهر التبرير لرسالته حول دخول الشعراء إلى الجنة.

ومنذ كتابه «رسالة الغفران»، وإن كان القصد الباطني فيه كثيراً، لكنه أصبح مصدراً مهماً للنقد الأدبي ولجميع دارسيه وفلاسفة اللغة ومحبي الخيال للاطلاع عليه.

بعد مضي أربعة قرون فوجئ المستشرقون بتقاطع ملحمة «الكوميديا الإلهية» للإيطالي دانتي ألليجيري، مع رسالة الغفران وكأنها تقلدها، إذ توصف الفكرة ذاتها بالطريقة المسيحية، فيقسم الجحيم إلى أبواب ويضع فيه الشعراء والمفكرين والعلماء، لتغدو النسخة الأوروبية المقلدة لأسلوب المعري؛ خصوصاً في استخدامه للشكل الشعري الجديد الذي اخترعه دانتي كمقاطع ثلاثية، وإضافته الرموز المحددة مع الإيجاز، ليروج لثقافته ولغته كما فعل المعري.

وهكذا تمضي السنون لتخرج الأحداث وكأنها تولد من بعضها بعضاً، لتشتق الكتب عن بعضها، ويُحدث الكتاب المختلف سطوته في قلبِ كل كاتبٍ حذق، يستمر التأثير من الشرق إلى الغرب، ومن لغة إلى أخرى، ومن جيل إلى جيل ومن ثقافة إلى ثقافة.

انقضت ستة قرون على «الكوميديا الإلهية» لدانتي، لتولد رواية «اسم الوردة» للمفكر والفيلسوف الإيطالي أُمبرتو إيكو والمتأثرة بملحمة دانتي من حيث إنها قائمة على البحث في سياق تاريخي وفكر فلسفي، وحين صدرت الرواية عام 1980، ضج بها العالم لما فيها من طرح تاريخي لبلده إيطاليا في القرون الوسطى، يعرض فيها فكرة التصاميم والنقوش في الأديرة، كما يكشف عن جريمة قتل في الدير بين الرهبان الفاسدين، لتصبح فكرة الرواية تنويرية تناهض الفكر الظلامي، برؤية إيكو الفلسفية.

تتابع فكرة الاشتقاق، وتمضي بالروائي التركي أورهان باموق إلى تاريخ بلده القديم زمن الإمبراطورية العثمانية، فبعد أن قرأ إيكو اشتدت رغبته في المحاكاة لرواية «اسم الوردة»، إذ اشتق منها جزءاً من عنوانه، في روايته «اسمي أحمر» الصادرة عام 1998، والتي تدور أحداثها في إسطنبول، لينتقد تاريخ بلاده في زمن الدولة العثمانية ويناقش فكرة التصاميم والنقوش في المساجد وعلى أغلفة القرآن وكيفية رسمها، وجريمة قتل يكشفها بدهاء في آخر الرواية، وكأنه يحاكي إيكو في روايته، ويتأمل تاريخه وأسلافه للمزيد من الإشراق.

وأخيراً، تبدو اليقظة الفكرية وكأنها ثغرة يخترقها الإنسان، فإما أن يترك صدعاً ويرحل، أو يقدم تجبيراً وإصلاحاً يصل إلى ضوء. وهكذا الأدباء أيضاً وأينما كانوا يشعرون بأن وظيفتهم في الإلهام والاشتقاق والمقارنة أو المقاربة هي وظيفة تنويرية وواجبة على عاتقهم لنضج إنساني أكبر وأكثر انفتاحاً وتقدماً للإدامة، والتتابع بعد خمود وانطفاء.

Reemalkamali@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتبة يرجى النقر على اسمها . 

تويتر