أبواب

الفيلم الذي فقد عطره

سلطان العميمي

للكاتبة الأميركية لوري مور مقولة جميلة، نصها «القصة القصيرة صورة فوتوغرافية، الرواية فيلم». ولعل هذا التشبيه الجميل والإحساس المختلف بكيفية استقبالنا الرواية أو تفاعلنا معها، أحد أهم أسباب تحويل الروايات إلى أفلام، لكن التجارب التي لا تنتهي في هذا الحقل أثبتت أن ليس كل رواية ناجحة يمكن أن يحصد تحويلها إلى عمل سينمائي نجاحاً موازياً لها.

وتمثل لي رواية «العطر» لباتريك زوسكيند أفضل نموذج للرواية الناجحة التي فشل تجسيدها سينمائياً في توليد المتعة نفسها أو الإحساس نفسه لدى من قرأها ثم شاهدها.

كانت رواية «العطر» قد صدرت في عام 1985، ونجحت نجاحاً باهراً، وترجمت إلى نحو أربعين لغة عالمية، وتقوم فكرتها على شخص دميم امتلك منذ مولده قدرة غير عادية على تمييز الروائح بدقة عالية وتحليل مكوناتها، وأصبح مع مرور الوقت يبتكر عطوره الخاصة، ويبحث عن استخلاص روائح معظم الأشياء، حتى تحوّل مع مرور الوقت إلى قاتل لفتيات ذوات مواصفات معينة كان يبحث عن استخلاص روائح أجسادهن.

• تمثل لي رواية «العطر» لباتريك زوسكيند أفضل نموذج للرواية الناجحة التي فشل تجسيدها سينمائياً في توليد المتعة نفسها أو الإحساس نفسه لدى من قرأها ثم شاهدها.

ومنذ إصدار الرواية، تلقى زوسكيند عروضاً لا تتوقف لتحويلها إلى عمل سينمائي، لكنه كان يرفض دائماً، وبعد خمس سنوات من المحاولة، نجح المنتج الألماني بيرند إيشنغر في إقناعه، وكلف الفيلم ميزانية قدرها 60 مليون دولار أميركي، ولأجله خضع الممثلان داستن هوفمان وبن ويشو الذي جسّد شخصية «غرينويل» لدورات مكثفة في صناعة العطور في ميونيخ قبل بدء التصوير، واستعان مخرج الفيلم بـ 520 فنياً و67 ممثلاً أساسياً وأكثر من 750 «كومبارس»، إلى جانب تصويره ما يقرب من 2500 مشهد في 11 موقع تصوير، وتم توفير طنّين ونصف الطن من الأسماك وطن من اللحوم كي تستخدم في المشاهد، وملئت أرجاء محل العطور في الفيلم بـ 1500 قنينة عطر صنعت خصيصاً له.

ثم ماذا؟

تدافع الناس لمشاهدة الفيلم الذي تم الانتهاء من تصويره خلال أقل من سنة، وكان مبهراً في تقنياته وإنتاجه، وبلغت عوائد عرضه 135 مليون دولار، لكنه افتقد إلى الإحساس بـ«الثيمة» الأهم التي قامت فكرة الرواية عليها، ألا وهي الروائح التي لم يشعروا بها طوال الفيلم!

هل معنى هذا أننا كنا نشم الروائح في أثناء قراءة الرواية؟

نعم، كنا نتخيلها، تماماً كما تخيلنا شكل بطلها الدميم، الذي صدمنا بشكله غير الدميم في الفيلم!

ليس هذا فقط، إذ إن مؤلف الرواية نجح أيضاً في تحويلنا إلى مخرجين ومصورين، تخيلوا المشهد من هذه الزاوية، والنور المنبعث من تلك الزاوية، وكنتُ ممن تخيلوا سوق السمك الذي وُلِدَ فيه البطل بقذارته وروائحه، كما تخيلت مختلف الروائح التي توالت في فصولها، لكني حُرمتُ من كل ذلك عند مشاهدتي الفيلم رغم إنتاجه الضخم.

هذه كانت الفروقات القاتلة بين الرواية والفيلم.

وإذ كانت القصة القصيرة صورة فوتوغرافية والرواية فيلماً، فإن قارئ الرواية مخرج ومنتج وممثل، أما مشاهد الفيلم فمحروم من كل ذلك.

buamim@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر